الموقف الروسي من الحرب الإسرائيلية على غزة
2023-11-211874 مشاهدة
توالت بيانات الشجب والإدانة من قِبل العواصم الغربية، يوم السابع من تشرين الأول، بعد العملية العسكرية التي قامت بها حركة حماس، والتي أطلقت عليها "طوفان الأقصى". كان لافتًا الموقف الروسي، الذي بدَا "داعمًا" للفلسطينيين، وهو ما يناقشه هذا المقال، الذي يسرد تسلسله بناءً على التصريحات الرسمية، ودوافعه، ويستشرف مآلاته النهائية.
تسلسل الموقف الروسي تجاه عملية "طوفان الأقصى"
صدر أول التصريحات، من ميخائيل بوغدانوف، والذي اكتفى بالقول: "روسيا تُجري اتصالات مع إسرائيل وفلسطين ودول عربية، وتدعو أطراف الصراع إلى وقف إطلاق النار". مع تأكيده على ضرورة العودة لمقرَّرات "الشرعية الدولية"، وحلّ "الدولتين"، وطاولة المفاوضات من خلال "الرباعية الدولية".
وزارة الخارجية الروسية، أكدت موقف بوغدانوف، من خلال المتحدثة الرسمية، ماريا زاخاروفا، التي صرحت بأن: "روسيا تعتبر تصعيد النزاع نتيجة لعدم الامتثال لقرارات مجلس الأمن الدولي، وعرقلة الغرب لعمل اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط".
بينما اتهم دميتري ميدفيديف، الغرب بأنه "السبب الرئيسي في اندلاع هذا الصراع، نتيجة دعمه لكل الحروب حول العالم"، وتقديم العون لمن أسماهم "النازيين الجُدُد" في إشارة إلى الحكومة الأوكرانية.
فيما وضعت وكالة النقل الجوي الفيدرالية الروسية، قيودًا على حركة الطيران الليلية بين موسكو وتل أبيب.
في منتدى "أسبوع الطاقة الروسي"، يوم 11 تشرين الأول/ أكتوبر، عبَّر بوتين، ولأول مرة عن موقفه، حيث حمَّل الغرب مسؤولية تفاقُم الأحداث، لعدم منح "الفلسطينيين حقهم في إنشاء دولة كما نصّ قرار التقسيم". كما صرح بعد عدة أيام، بأنه لم يتمالك نفسه من "البكاء" عند رؤيته لمشاهد "قتل أطفال غزة".
رغم إدانة روسيا، لهجوم حماس على المدنيين الإسرائيليين، في مجلس الأمن الدولي، إلا أنها وجَّهت اللوم للاحتلال الإسرائيلي على ممارساته، وردّه "غير المتناسب". كما انتقدت الدور الغربي، لعدم ضغطه على إسرائيل، لتحقيق مطلب الدولة الفلسطينية المستقلة.
في يوم 26 تشرين الأول/ أكتوبر، وصل وفد من حركة حماس، برئاسة موسى أبو مرزوق، إلى موسكو، وعقدوا عدة لقاءات مع مسؤولي وزارة الخارجية الروسية، وهو ما دفع الخارجيةَ الإسرائيليةَ، لاستدعاء السفير الروسي في إسرائيل والاحتجاج على الخُطوة.
محدِّدات موسكو في علاقاتها مع تل أبيب
مرت العلاقات الإسرائيلية مع موسكو بعدة منعطفات تاريخية، كان لها بالغ الأثر في إعادة تشكيلها من جديد أثناء حكم بوتين، وتحديداً منذ عام 2008، بعد حرب أوسيتيا الجنوبية، حيث دعمت إسرائيل بنشاط جورجيا، ورغم انتصار الروس في هذه الحرب المصغَّرة، إلا أن هذا الدعم كشف عن ضعف قُدرات الجيش الروسي التكنولوجية آنذاك، وقُدرات إسرائيل في إزعاج روسيا -لو أرادت- في جوارها القريب، وهو ما دفعها لعقد علاقة أكثر قوةً ومتانةً مع تل أبيب، وحجب تسليم عدة أسلحة متطوِّرة للنظام السوري، واتخاذ موقف دبلوماسي داعم للقضية الفلسطينية، دون فعل حقيقي على الأرض يمكن أن يزعجها.
معادلة الكرملين، كانت قائمة على عدة محدِّدات، أهمها:
· إسرائيل، نشأت في الأساس بدعم أولي بريطاني، ولكن الفضل الأكبر في صدور قرار دولي بمنحها الشرعية، وتسليحها أثناء حرب 1948، يعود في الأساس للدعم السوفياتي، ورغم ذلك لم تستفِدْ موسكو من هذا الدعم التاريخي بالشكل الكافي.
· الانحياز الروسي (في العهد السوفياتي) للعرب في الصراع مع إسرائيل، وصولاً لقطع العلاقات الدبلوماسية بعد حرب الخامس من حزيران 1967، أدى لإضعاف الدور والتأثير الروسي، وتجلى ذلك في استثنائها من مفاوضات السلام بعد حرب السادس من تشرين الأول 1973، وانفراد الولايات المتحدة، بالتوسُّط في اتفاقيتَيْ كامب ديفيد والسلام المصرية الإسرائيلية، وما أعقبها من اتفاقيات بين العرب وإسرائيل.
· كافة قادة إسرائيل من بن غوريون حتى نتنياهو (باستثناء نفتالي بينت)، وُلدوا هم أو آباؤهم في الإمبراطورية الروسية، كما أن أكثر من ربع السكان يعرفون أنفسهم على أنهم روس، وهو رصيد كبير يمكن لروسيا استغلاله لتعزيز مصالحها في المنطقة.
· حفاظ روسيا على علاقات جيدة مع اليهود عامة، وإسرائيل على وجه الخصوص، يمكن أن يُساهم في تحسين صورتها أمام الغرب، وخلق قناة خلفية عند وجود خلافات مع الولايات المتحدة، ويعزِّز من شبكة الأمان الدولية لإسرائيل، بما يجعل لروسيا دوراً في قضية السلام، وشؤون الشرق الأوسط.
على هذا الأساس، تم بناء علاقة "روسية-إسرائيلية"، جديدة في عهد بوتين، وصولاً للتنسيق المشترك بين الطرفين في سورية، وغض الطرف عن قيام إسرائيل بغارات جوية وهجمات عسكرية مباشرة. مقابل ذلك لا تتدخل إسرائيل لصالح الولايات المتحدة أو من تِلْقاء نفسها، لتقديم أي عون حاسم لخصوم روسيا في مجالها ما بعد السوفياتي، وهو ما تجلى في عدم منح إسرائيل أي أسلحة متطورة إلى أوكرانيا.
الدوافع خلف المواقف الروسية
بعد "ضمّ" روسيا لشِبه جزيرة القرم، بدأت أُولى بوادر الشك لدى الكرملين في قيمة محاباة إسرائيل، ودور اللوبي اليهودي في روسيا، وصلاته بنظيره في الغرب تجاه دعم مصالحها، وصولاً لتبدُّد هذه الأحلام بعد يوم 24 شباط 2022، عندما قررت روسيا غزو أوكرانيا، وانقلاب النخب اليهودية على الكرملين، وترك الكثير منهم البلاد والهجرة إلى الغرب وإسرائيل، وشنهم هجوماً قاسياً على بوتين وسياساته، وصولاً لتنظيم معارضة خارجية ضدّ حكمه.
أدى موقف النخب اليهودية المناهض للكرملين، ودعم إسرائيل للرؤية الغربية تجاه الحرب في أوكرانيا، والسماح لعدد من الخبراء الإسرائيليين بالتطوُّع للقتال بجانب الأوكرانيين، وتحوُّل تل أبيب لملاذ للمعارضين الروس إلى شعور الحكومة الروسية بالمرارة وخيبة الأمل، بل والخيانة.
وقد وفَّرت عملية "طوفان الأقصى" فرصة مثالية لموسكو، لردّ "الصفعة" التي تلقتها لتل أبيب، عَبْر التصريحات التي تم ذكرها سابقاً، واستقبال وفد حماس، رغم تصنيف إسرائيل وبلدان غربية للحركة على أنها "إرهابية" كردّ على احتضانهم للميليشيات المسلحة الأوكرانية التي تصنفها موسكو بأنها تنتمي للأيديولوجية "النازية".
المؤسسة الدينية اليهودية الرسمية في روسيا، التزمت الصمت تجاه الحرب "الروسية-الأوكرانية"، ورغم قبول السلطات الروسية لموقفها "الحيادي"، وإن كان سلبياً في غير صالحها، إلا أنها فُوجئت بخروج حاخام موسكو الأكبر بنحاس غولدشميت، من البلاد، ومعارضته لبوتين، وطلبه من اليهود الروس مغادرة البلاد، والهجرة إلى إسرائيل. ورداً على ذلك اتخذت الحكومة الروسية عدة إجراءات لتصفية وكالة الهجرة اليهودية (سخنوت).
في يوم 29 تشرين الأول/ أكتوبر، هبطت طائرة مدنية قادمة من تل أبيب إلى مطار محج قلعة الدولي، عاصمة جمهورية داغستان الفيدرالية الروسية، تقلّ مجموعة ممن يُسمَّوْن "يهود الجبل"، وهم يهود منطقة شمال القوقاز، الذين هاجروا بعد الحرب على أوكرانيا. أطلقت السلطات الروسية العنان للمسلمين الغاضبين لاقتحام المطار، لتوجيه عدة رسائل؛ الأولى لهؤلاء اليهود الذين تخيلوا أن أمانهم خارج روسيا، فإذ بهم يعودون مذعورين من صواريخ حماس، لوطنهم الأصلي الأكثر أماناً، الثانية أن بقاءهم في البلاد يعتمد على حماية الكرملين، وضرورة طاعتهم وعدم الخروج عن النص، الثالثة منح المجال للمسلمين -وهم أغلبية سكان الجمهورية الفيدرالية- للتعبير عن غضبهم، خصوصاً أنهم أكثر من قدَّم تضحيات في الجبهة الأوكرانية.
أخيراً تستغل روسيا بنشاط في وسائل إعلامها، ما يحدث من جرائم إسرائيلية ضد المدنيين، وضربها لأهداف مدنية مثل المستشفيات، لإظهار ما تسميه "النفاق" الغربي، عند مقارنة دعمه اللامحدود لإسرائيل مقابل ادِّعاء وقوفه بجانب أوكرانيا، للتصدي للعدوان الروسي، بجانب أن الحرب في الشرق الأوسط مع إمكانية توسُّعها، تستنزف قدرات واشنطن والغرب الجماعي العسكرية والدبلوماسية والإعلامية، وهو ما يمنحها مزيداً من الشعور بالراحة، والقدرة على تثبيت أقدام جيشها على الأراضي التي استحوذت عليها في جنوب شرق أوكرانيا.
الاستنتاجات
الموقف الروسي تجاه الحرب على غزة، نابع من ردّ فعل تجاه ما قدمه الغرب من دعم لأوكرانيا، وما يعتقد الكرملين أنه "خيانة" من جانب إسرائيل والنخب اليهودية، وعدم تقديرهم لكل ما قدمته موسكو من دعم ومساندة للمجتمع اليهودي في روسيا، ورهان على إسرائيل، ودور اللوبي الداعم لها.
تشهد العلاقات "الروسية-الإسرائيلية"، وكذلك "الروسية-اليهودية"، تدهوراً لم يسبق له مثيل منذ عهد الزعيم السوفياتي ستالين، وصولاً لاتخاذ الحكومة عدة إجراءات جادة، لتصفية وكالة الهجرة اليهودية (سخنوت).
لا تملك روسيا حالياً أدوات حقيقية على الأرض لتقديم دعم للفلسطينيين (حال كان لديها النية)، وجُلّ ما تستطيع القيام به، إطلاق التصريحات المناهضة للغرب ومعاييره المزدوجة، ومكايدة إسرائيل، عَبْر عدة تصريحات استفزازية تنال بها شعبية في العالم العربي، إلى جانب الدعم السياسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، دون تأييد قرارات قد تُشكِّل سابقة تُلزمها بمثيلتها في أوكرانيا، وهو ما يفسر امتناعها عن التصويت على المقترح المالطي، لوقف إطلاق النار لأجل هدنة إنسانية.
تعتقد روسيا أن بإمكانها لعب دور أكبر في ملفّ الصراع "الفلسطيني-الإسرائيلي"، وتسويق دورها من خلال علاقاتها مع كافة أطراف النزاع: (إسرائيل- السلطة الوطنية الفلسطينية- حماس- الجهاد- حزب الله- إيران- مصر- الأردن- النظام السوري- العراق)، بينما عدد من الأطراف الفاعلة في هذه المعادلة لا تمتلك واشنطن علاقات مباشرة معه، والبعض الآخر تصنفه جماعات "إرهابية".
خلافًا للمواقف الدعائية، والرغبة في ردع إسرائيل عن أي تدخُّل حيوي لدعم أوكرانيا، وإضعاف موقف الغرب وقِيَمه في أعيُن الشعوب العربية والإسلامية وبلدان الجنوب العالمي، والسعي لِلَعِب دور في أي تسوية مستقبلية تقايض عَبْرها بالورقة الفلسطينية مصالحها في جوارها القريب، لا يُنتظر أن تُقدِّم روسيا دعماً كبيراً يُسهم في قلب معادلة الصراع.