حرصاً على الذهب ومناطق النفوذ.. داعش وميليشيا فاغنر وجهاً لوجه!
2024-03-051263 مشاهدة
يجدّد الذهب في مالي الصراع المحموم بين التنظيمات الجهادية من جهة، والجيش الحكومي عموماً، وميليشيا فاغنر الروسية خصوصاً من جهة أخرى، فمنذ اشتراك هذه الأخيرة في حملات الجيش المالي ضد الطوارق في إقليم كيدال في آب/ أغسطس 2023 تصاعد تركيزها على مناطق تعدين الذهب وسط البلاد وجنوبها، في محاولة -على ما يبدو- لتحصيل المبالغ المتفَق عليها مع الحكومة الماليّة في إطار دعمها لحملاتها ضد الجماعات الجهادية وقوى الطوارق.
في هذا السياق، تركز هذه الجماعات والقوى على مصادر التمويل، ولا شيء يبدو أنجع من الاستثمار -أو فرض الإتاوات- في مناطق الثروات المعدنية وتعدين الذهب.
فاغنر.. وبريق الذهب الماليّ
تنتشر في مالي أربع شركات دولية تعمل في مجال التنقيب عن الذهب وتعدينه، وهي شركتا "BarrickGold" و "B2GOLD" الكنديتان، وشركة"Resolute Mining" الأسترالية، وشركة AngloGold Ashanti" " من جنوب إفريقيا.
دخلت فاغنر مرحلة الاتفاقيات مع الحكومة للاستثمار في تعدين الذهب، حيث اشترى مؤسسها ديمتري أوتكين عام 2022، %78 من أسهم إحدى الشركات الماليّة -الشركة الوطنية- لتعدين الذهب "MARENAGOLD"، إلا أن هذا الاستحواذ لم يكن كافياً لفاغنر، وهو ما دفعها للتوسع بحثاً عن السيطرة الخالصة على مناجم كبرى.
في 9 من شباط/ فبراير 2024 سيطرت فاغنر الروسية على منجم "تِين أيكارانا" أكبر منجم في الأقاليم الشمالية في مالي، الواقع في بلدة "إنتاهقا" بولاية غاو، حيث جاءت قوة كبيرة من فاغنر معززة بناقلات جند ومروحيات، واستولت على المنجم بالقوة، حيث أمهلت الشركة ميليشيا إمغاد الطوارقية مدة 24 لتسليم المنجم، وهو ما حصل في 10 من شباط الماضي، علماً أن هذا المنجم خضع في السنوات الأخيرة لسيطرة جماعات متعددة بما في ذلك جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، وأخيراً ميليشيا إمغاد التي دفعت للتنظيمات الجهادية ضرائب مقابل تشغيلها للمنجم خلال السنتين الأخيرتين.
ساعدت الضرائب التي تدفعها شركات التعدين الغربية للحكومة المالية بتمويل الاتفاق الشهري مع فاغنر بقيمة 10 ملايين دولار، ومع عدم قدرة الحكومة على الإيفاء بتعهدها توجهت فاغنر للسيطرة على منجم إنتاهقا، وهو أول منجم ذهب في مالي تسيطر عليه فاغنر.
يؤكد المسؤولون الماليّون أن تعدين الذهب وعمليات التنقيب في مالي تنتج نحو 26 طنًا من الذهب سنويًا، يأتي معظمها بنسبة 70% تقريباً من جنوب غرب مالي بقيمة تصل إلى 1.3 مليار دولار، وبالرغم من ذلك، فإن عدم إدراج مناجم الذهب في الشمال يجعل من الصعب تقدير الكمية التي كانت تنتجها الجماعات الجهادية والانفصالية في المنطقة، وبالتالي فإن السيطرة على هذا المنجم ستوفر لفاغنر ثروات هائلة من الذهب وربما ذريعة للتوسع في السيطرة على مناجم الشمال، علماً أن تقرير الذهب الدموي في كانون الأول/ ديسمبر 2023 قدر أن فاغنر وفرت لروسيا نحو 2.5 مليار دولار من تجارة الذهب والألماس في إفريقيا -في جمهورية إفريقيا الوسطى والسودان- منذ غزو أوكرانيا، حيث تمتلك فاغنر شبكة وسطاء وشركات لاستغلال الثغرات في العقوبات الغربية وبيع الذهب في الأسواق العالمية، مما يخفف من تأثير العقوبات الغربية على موسكو، علماً أن روسيا وقعت "مذكرة تفاهم" مع المجلس العسكري المالي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، لتمويل وبناء منشأة لتصفية الذهب في العاصمة المالية باماكو، لإنتاج 200 طن من الذهب سنوياً، وهو ما يُعَدّ أكثر بثلاثة أضعاف من إنتاج مالي الرسمي في عام 2022.
الجماعات الجهادية.. عين على الذهب وأخرى على الأرض
في أيلول/ سبتمبر 2022 قدم الشيخ "الحاج كيبسا ويدراوغو" زعيم إحدى البلدات الواقعة شمال بوركينا فاسو -القريبة من الحدود مع مالي- شهادة مطولة لصحيفة فايننشال تايمز، يحكي فيها عن أهمية الذهب لدى التنظيمات الجهادية، حيث ما إن تظهر علامات على تعدين الذهب في أي موقع من شرقي مالي أو جنوبيها أو شمال بوركينا فاسو، حتى تأتي مجموعات من التنظيمات الجهادية -بحسب السيطرة على الأرض- بهدف السيطرة على الموقع وفرض إتاوات على العمال العاملين فيها، فالمنطقة ذاخرة بمناجم الذهب – الرسمية وغير الرسمية– وقد أمست مصدر دخل للتنظيمات الجهادية في المثلث الحدودي بين النيجر وبوركينا فاسو ومالي.
هذه القصة التي يرويها الحاج كيبسا تعطينا صورة معاكسة عمّا يجري الآن من قِبل فاغنر في مالي، فالمنطقة زاخرة بمناجم الذهب، والقصص المتناقَلة شعبيّاً حول العثور على صخور كبيرة ملأى بالذهب دون جهود مضنية، تثير الشباب للبحث والتنقيب، وتدفع فاغنر للسيطرة هي الأخرى على مناطق نفوذ تقليدية للجماعات الجهادية.
لم تتأخر ردة فعل داعش الذي له حصة من أرباح منجم "إنتاهقا"، حيث نفذ كميناً للجيش المالي أدى لمقتل ما يقارب 50 عنصراً -بحسب إعلامه الرديف- بعد يوم من سيطرة فاغنر على المنجم، وذلك على مقربة منه، حيث وقع الكمين على بُعد 55 كم من مدينة أنسونغو الإستراتيجية في ولاية غاو، كما نفذ هجمات أخرى ضد فاغنر والجيش المالي، أبرزها في 16 شباط/ فبراير حيث استهدف رتلا للجيش وفاغنر في منطقة غاتيانا القريبة من موقع المنجم في ولاية غاو، أدى الهجوم لمقتل عنصرين من ميليشيا فاغنر ونحو 6 عناصر من الجيش وإصابة نحو 10 آخرين بحسب مصادر محلية.
فهل تشكل سيطرة فاغنر على المنجم تهديداً اقتصاديّاً للتنظيم؟
عادةً فإن الحكومات في دول الساحل لا تشرف على عمليات التعدين واستخراج الذهب، ومن هنا تبرز الميليشيات المحلية وجماعات الجريمة المنظمة لتسيطر على كثير من جهد الناس في مناطق التنقيب، وهو ما دفع تنظيمَي القاعدة وداعش لتقديم عروض للمواطنين تتضمن حمايتهم من قُطاع الطرق وجماعات الجريمة المنظمة، مقابل مقادير معينة من الذهب المستخرَج في المنطقة.
ومن هنا كانت عوائد الذهب منذ عام 2020 المصدر الأبرز لموارد هذه الجماعات، حيث يبسطون سيطرتهم على مناجم ذهب خاصة بهم، أو يفرضون ضرائب معينة على الناس في المناجم الأخرى، ويقومون ببيع الذهب للتجار المرتبطين بتهريب الذهب إلى خارج البلاد، حيث يُهرّب الذهب من دول الساحل عَبْر دول الجوار، مثل توغو وبنين، أو عَبْر الرحلات الجوية المباشِرة بين الدول الغنية بالذهب ودول أخرى كالإمارات، حيث كثيراً ما يُنقل الذهب المهرب بحقائب اليد عَبْر رُشًا مقدّمة لموظفي المطارات في هذه الدول، إلى جانب أن حمايتها للقرى التي يعمل شبابها في التنقيب شكّلت بوابة فكرية ودعائية لتجنيد الشباب واستقطابهم إلى صفوفها.
من المؤكد أن خُطوات فاغنر في السيطرة على عشرات المناجم الصغيرة في مناطق نفوذ الجماعات الجهادية ستدفع هذه الجماعات لتصعيد هجماتها ضد القوات الحكومية وعناصر فاغنر، كما أن نشاط هذه التنظيمات في مناطق المناجم غير الرسمية للذهب سيُعَدّ دافعاً لفاغنر لتوسيع نشاطها فيها، فعلى سبيل المثال، فإن فاغنر لا تنشط في المناطق الغنية بالذهب في جنوب غرب مالي -ولاية كايسي- إلا أن توسع نشاط جماعة نصرة الإسلام والمسلمين فيها أواخر عام 2023 شكل ذريعة مُثلى لتوسع فاغنر نشاطها في المنطقة مستقبلاً، وذلك بهدف تحقيق مزيد من السيطرة على مناجم الذهب في المنطقة.
بكل تأكيد فإن هذه الخُطوات ستزيد من العنف المتبادَل، وسيدفع مجموعات كبيرة من الشباب للانضمام إلى المجموعات الجهادية في مناطقهم، حيث تستخدم دعايتها لمواجهة "المحتل الجديد" و"أعوان الطاغوت"، خاصة أن فاغنر ترتكب بشكل شِبه يومي مجازر وانتهاكات بحق المدنيين في القرى التي تنفذ عمليات تفتيش ودهم فيها.
إلى جانب ذلك، فإنّ التنافس على النفوذ والسيطرة على مناجم التعدين سيزداد مستقبلاً، مما يحفز تصاعُد الاضطرابات الأمنية في المنطقة، ويزيد من احتمالات تنفيذ هجمات ضد هذه المناجم وارتكاب مجازر بحق المدنيين العاملين فيها.