عام على طوفان الأقصى.. المكاسب والخسائر
2024-10-071377 مشاهدة
Download PDF
كان الشرق الأوسط مُقبِلاً على تحوُّلات جذرية في العلاقات الإسرائيلية العربية، والتي من شأنها أن تُدخِل المنطقة في مرحلة جديدة من السلام الإقليمي، لكن على أنقاض القضية الفلسطينية بحسب ما تعتقد حركات المقاومة في غزة، خاصة مع صعود اليمين الديني والقومي ليُشكِّلا معاً أكثر حكومة متطرفة في تاريخ إسرائيل، الأمر الذي دفع المقاومة إلى إعادة صياغة المشهد من جديد.
قبل إقدامها على تنفيذ هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 التي عُرفت بـ "طوفان الأقصى"، كانت المقاومة الفلسطينية أمام تحديات غير مسبوقة، تبدأ من الخطاب السياسي لحكومة اليمين التي أخذت على عاتقها حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني، حيث رفع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل شهر واحد من الطوفان خريطة فلسطين التاريخية، وعليها "دولة إسرائيل" فقط، دون أي إشارة للوجود الفلسطيني، وهو ما ينسجم مع تلك الإجراءات الإسرائيلية التي حوَّلت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية إلى مجرد أداة أمنية لتعزيز حماية المستوطنات الإسرائيلية، بينما كان قطاع غزة عديم الخيارات، يحاول التكيف مع الحصار وترقُّب المساعدات الدولية غير الكافية، وسماح إسرائيل بإدخال المزيد من العمال لتحسين ظروف السُّكّان المعيشية.
أمام ذلك المشهد البائس فلسطينياً، كانت إسرائيل مُطْمئِنة لخُطواتها في إدخال مقاومة غزة في مَسار يشبه مسار اتفاق أوسلو (1993)، بحيث تسلك حركة حماس وحكومتها في غزة نفس الطريق الذي سلكته حركة فتح والسلطة، بالتخلي عن مبدأ "مقاومة الاحتلال الإسرائيلي".
لم تنجح أجهزة المخابرات الإسرائيلية في قراءة المشهد وتفاصيله بشكل دقيق، وكان تقييمها للمسار متأثراً بصورة خادعة تبنَّتها المقاومة على المستوى الإستراتيجي والتكتيكي [1] ، وشكَّلت هذه الصورة على مدى سنوات سبقت طوفان الأقصى أهم عوامل نجاح هجمات الطوفان، حيث استطاعت المقاومة امتلاك عنصر المفاجأة للمرة الأولى، وهو ما يفسر مستوى الصدمة، وعدم قدرة حكومة نتنياهو على التعامل الأمني والعسكري مع الطوفان القادم من قطاع غزة، لذلك احتاجت إسرائيل بضعة أسابيع من أجل استعادة التوازُن، وحشد الدعم الدولي غير المسبوق في تاريخ الصراع.
مكاسب المقاومة الفلسطينية
ربما يخلق الحديث عن المكتسبات جدلاً كبيراً وسط مشهد الدمار الكبير في غزة، لكن فعلياً وضِمن حسابات المقاومة فإنها قد حققت مكتسبات إستراتيجية رغم الكلفة الباهظة التي تكبّدها القطاع.
على المستوى العالمي، أعاد الطوفان الحديث عن قضية فلسطينية كادت أن تُنسى تماماً، ثم فتح الباب واسعاً لنقاش سَرْدِيّة الرواية الصهيونية، بعد أن كانت من المحرَّمات، فصورة إسرائيل قد تلطَّخت عالمياً بسبب ارتكابها للإبادة الجماعية في غزة، وتقديمها رواية غير مقنِعة وبعيدة عن الواقع، خلقت حواضن عالمية جديدة للقضية الفلسطينية، ولم تقدم العديد من الدول الأوروبية على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إلا تجاوُباً مع ذلك الحَراك العالمي الواسع والمستمر.
من جانب آخر فإنَّ الحديث عن السلام الإقليمي والتطبيع الذي سبق الطوفانَ لم يَعُدْ قائماً ومقنِعاً؛ لأن الأنظمة العربية التي كانت متحفزة للتطبيع باتت غير قادرة على تجاوُز مظلومية الشعب الفلسطيني أمام الرأي العامّ العربي والإسلامي، علاوة على أن غطرسة نتنياهو تُشكّل هي الأخرى عائقاً أمام هذه الأنظمة التي اكتشفت بفعل الطوفان أيضاً أن إسرائيل لا تستطيع حماية أمنها، فكيف لها أن تُقدّم الأمن والحماية والتكنولوجيا لحلفائها المفترَضين من العرب؟
على المستوى الميداني، أعاد الطوفان روح المقاومة إلى الشارع الفلسطيني عموماً، وهذا ما كانت تحاول إسرائيل التصدي له بالهجمات اليومية على مدن ومخيمات الضفة الغربية، وهو ما يُمثّل اعترافاً بفشل مسار اتفاق أوسلو على مدار 30 عاماً، وقد كان من أهداف المقاومة إظهار مستوى العجز الإسرائيلي في إخراج الضفة الغربية من دائرة الصراع.
خلال عام من الصراع نجحت المقاومة في الحفاظ على ورقة الأسرى، وهي واحدة من أهداف الحرب المُعلَنة بالنسبة لإسرائيل [2] ، وبالرغم من استخدام إسرائيل كافة الوسائل الاستخباراتية والتكنولوجية من أجل الوصول إلى أسراها في غزة، إلا أنها بقيت مُجبرة على التفاوض أملاً في انتزاع هذه الورقة من يد المقاومة.
على المستوى الأمني، فجر الطوفان عقدة أمنية ظلت تُشكّل أولوية لكافة الحكومات الإسرائيلية، وحققت المقاومة اختراقاً كبيراً بإمكانياتها المتواضعة مقارَنة بالتفوق الإسرائيلي تكنولوجياً وأمنياً وعسكرياً، وترك هذا الخرق أثره على صورة إسرائيل خارجياً وداخلياً، خاصة أنها تستثمر بقدراتها الأمنية على مستوى المنطقة والعالم، من هنا عزَّز الطوفان من أولوية العُقْدة الأمنية في إسرائيل، وجعل القضاء على المقاومة في غزة، وإعادة احتلال القطاع واحداً من أهداف الحرب المستمرة.
استمرت المقاومة في غزة ميدانياً على المستوى العسكري، مما اضطر الجيش الإسرائيلي لقيامه بعمليات يومية متكررة، وهو بذلك كان يؤكد عدم قدرته على السيطرة العسكرية على مدن القطاع، وربما يعود نجاح المقاومة في ذلك إلى قدرتها على إعادة ترتيب صفوفها، وسيطرتها المدنية نسبياً، ويظهر ذلك جلياً في تعدُّد الخطط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية الرامية لإعادة احتلال غزة بأقل الأثمان، ثم فشل تحقيق ذلك خلال عام كامل بعد الطوفان.
من جانبه يؤكد نتنياهو في خطابه على ضرورة تحقيق النصر المطلَق على المقاومة في غزة، إلا أن الأوساط السياسية والأمنية في إسرائيل لا تتبنّى أو تقتنع بذلك، لأن استسلام المقاومة مسألة ليست واردة، وهذا ما يدفع نتنياهو إلى السعي لإطالة أمد الحرب، ومحاولة توسيعها إقليمياً، مع التركيز على استهداف قيادة المقاومة للحصول على صورة نصر يمكن تقديمها إلى المجتمع الصهيوني الغاضب والمتعطش للأمن واستعادة الأسرى، وهنا يعوض نتنياهو فشله بالتركيز على اغتيال قيادة المقاومة.
الخسائر الفلسطينية
ذهب الجيش الإسرائيلي أبعد مما تصوَّرته المقاومة في غزة، مُركِّزاً على تدمير كل أشكال الحياة ومقوِّماتها في القطاع، ولم يكن استهداف المشافي ومراكز الإيواء والتجمعات السكنية مجرد انتقام من المقاومة، بقدر ما استغلت إسرائيل هذه الفرصة لتحقيق حلم حسم الصراع، مرتكِزة على الدعم الأمريكي والغربي، وهذا ما عزز من مشاريع اليمين الديني الساعي إلى إعادة احتلال قطاع غزة، وإعادة إنشاء المستوطنات، فالشراكة السياسية بين نتنياهو وأحزاب اليمين الديني عززت من حرب الإبادة التي قضى فيها أكثر من 41 ألفاً، وخلفت ما يقارب 100 ألف من الجرحى [3] .
إذا كانت المقاومة قد أقدمت على طوفان الأقصى من أجل تغيير الواقع الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية، وقطاع غزة على وجه الخصوص، فإن استمرار حرب الإبادة أظهر مع مرور الوقت تراجُعاً في التطلُّعات والمطالب السياسية الفلسطينية، وهذا ما ظهر في جولات التفاوض التي ركزت على الأبعاد الإنسانية والأمنية، دون أي ذكر للحقوق السياسية الفلسطينية.
لعل ما شجَّع إسرائيل على الإمعان في حرب الإبادة، ذلك الخطأ الواضح في حسابات المقاومة، وخصوصاً على مستوى الجبهات المسانِدة التي كان من المفترض أن تتحرك وَفْق إستراتيجية "وحدة الساحات" المعلَنة في الخطاب السياسي لدى "محور المقاومة والممانعة" المتبني للمقاومة في فلسطين، لكن هذا الخطاب لم يظهر بالشكل المأمول ميدانياً، فتدخل أذرع المحور في لبنان وسورية واليمن لم يكن مؤثراً على سير العمليات الجارية في غزة.
بمرور الوقت فهمت حكومة نتنياهو مضمون خطاب المحور ومستوى تدخُّله الذي لا يتناسب مع الأحداث في غزة، والذي فشل في التأثير الذي يمكن أن يُجبِر إسرائيل على إيقاف الإبادة الجماعية والتوجُّه نحو الحلول الدبلوماسية، واستغلت الحكومة الإسرائيلية تراجُع قدرة الإدارة الأمريكية على التدخل لإيقاف إسرائيل بسبب ظروف الانتخابات في الولايات المتحدة، وهذا ما استغله اليمين الديني في إسرائيل للتخلص من أي حقوق قانونية أو سياسية للشعب الفلسطيني، فرفضت حكومة الحرب في تل أبيب أيّ حلول سياسية مع الكيانات السياسية الفلسطينية بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية، في محاولة استغلال الظرف القائم لحسم الصراع مع الشعب الفلسطيني، وهو ما قد يشجع الحكومة الإسرائيلية على البدء في تكرار نموذج غزة في الضفة الغربية، عبر التخلص من المخيمات، تمهيداً لضم الضفة إلى "دولة إسرائيل".
الجبهة اللبنانية وتداعياتها فلسطينياً
بانتقاله إلى الجبهة اللبنانية بالتزامن مع إنهاء عملياته العسكرية الكبرى في غزة، حاول الجيش الإسرائيلي إعادة الأمن لمستوطنات الشمال، وإبعاد حزب الله عن حدوده الشمالية، مستنداً إلى إعلان تطبيق القرار الدولي 1701 (2006) الذي من شأنه أن يُفكِّك الوجود العسكري للحزب جنوب لبنان، وإعادته إلى شمال نهر الليطاني [4] ، لكن في ظل النجاحات الأمنية العسكرية على مستوى قدرة الجيش الإسرائيلي على استهداف قيادات الحزب بهذا الشكل الواسع وغير المسبوق، تبقى تطوُّرات الأحداث على الجبهة اللبنانية في مراحلها الأولى، حيث تحاول إسرائيل تحقيق أهدافها لاستعادة الثقة، عَبْر تحقيق الأمن الداخلي الذي سينعكس إيجاباً على وَضْع حكومة نتنياهو السياسي، خاصةً أن نجاحها في تحقيق هذه الأهداف من شأنه أن يساعد على الفصل بين جبهة غزة وجبهات المقاومة الأخرى، وهذا ما تخشاه المقاومة، وتؤكد عليه في خطابها السياسي؛ لأنها تعلم أن نجاح إسرائيل في تحقيق أيّ انتصارات إقليمية على حساب أذرع المقاومة الإقليمية، سيكون كفيلاً بإعادة الهيبة والردع لإسرائيل، ومن ثَمّ إعادتها بشكل أقوى لحسم الصراع، والذهاب نحو مشاريع التطبيع المؤجلة.
شكَّلت تطوُّرات المشهد حاجة لدى إيران لتوجيه ضرباتها الصاروخية بشكل مباشرة ضدّ إسرائيل مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2024؛ لأن توسيع إسرائيل هجماتها على لبنان يمسّ الأمن القومي الإيراني، بحكم ارتباط الحزب عضوياً مع المشروع الإيراني على خلاف العلاقة الإيرانية مع حركة حماس، كما أن أيّ انتصار لإسرائيل سيكون على حساب إيران وأمنها القومي الذي تأسس بفضل تدخُّلاتها ونفوذها المتصاعد في المنطقة خلال العَقْدين الماضيين.
الخُلاصة
بعد مرور العام الأول على طوفان الأقصى، أصبح مصير قطاع غزة والقضية الفلسطينية مرتبِطاً بنتائج الحرب الإقليمية التي تتسع مع مرور الوقت، وربما يخفف هذا من ضغوطات الجبهة الداخلية في فلسطين، وخاصة على قيادة حماس في غزة.
استفادت إسرائيل من هشاشة الوضع الإقليمي وتفكُّك الموقف الدولي، الأمر الذي ساعدها على ارتكاب الإبادة الجماعية في غزة خلال العام الأول بعد الطوفان، وبالتالي دفعت غزة ومَن فيها الثمن غالياً، لكنه لم يتحقق لحكومة نتنياهو النصر، ولو بحدوده الإعلامية، لذلك ذهبت إسرائيل إلى الجبهة اللبنانية؛ لإدراكها بمستوى السوء والخلل من إدارة "محور المقاومة والممانعة" للصراع، وهذا ما شكَّل حافزاً لنتنياهو لتحويل جبهات المسانَدة التي لم تساند عملياً، إلى جبهات مستهدَفة.
يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)
الهوامش:
[1] عبد الرحمن أبو العلا ، كيف خدعت حماس جيش الاحتلال ومخابراته؟ موقع الجزيرة نت، 10/10/2023. الرابط
[2] نتنياهو: تحقيق أهداف الحرب يتطلب بقاءنا في محور فيلادلفيا، موقع قناة العربية، 02/09/2024. الرابط
[3] ارتفاع حصيلة عدوان الاحتلال على غزة إلى 41,909 شهداء و97,303 إصابات ، موقع وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا"، 07/10/2024. الرابط
[4] إسرائيل تطالب مجلس الأمن بالتحرك لضمان انسحاب «حزب الله» إلى شمال الليطاني، صحيفة الشرق الأوسط، 24/09/2024. الرابط