الاتحاد الأوروبي بين صعود أقصى اليمين وهاجس عودة دونالد ترامب

الاتحاد الأوروبي بين صعود أقصى اليمين وهاجس عودة دونالد ترامب

2024-07-09
1238 مشاهدة

أسفرت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي في حزيران/ يونيو الماضي، عن خريطة جديدة غير تقليدية للمشهد السياسي، خاصة صعود أقصى اليمين في البلدان المؤسِّسة للعمل الأوروبي المشترك (فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، بلجيكا، هولندا).    

ولا شك أنه سيكون لذلك تداعياته على أداء الاتحاد الأوروبي ولو بشكل نسبي، ويأتي هذا الصعود الشعبوي واليميني والنزعات القومية في القارة القديمة، مع وجود حالات مماثلة حول العالم من الهند إلى الولايات المتحدة التي ستشهد في نوفمبر القادم انتخابات مفصلية، إذ إن احتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض يؤرق صانعي القرار الأوروبي.     
 

في المحصلة، يخرج الاتحاد الأوروبي ضعيفاً من استحقاق انتخابات برلمانه في هذا المنعطف الدقيق من التنافسية بين التكتلات الدولية، وفي لحظة الاحتياج إلى أوروبا متينةً وفاعلةً، يفقد الاتحاد بعض قدرة جذبه وتأثيره نتيجة تزايُد رصيد المشكِّكين بالفكرة الأوروبية. وإذا لم يتمكن الاتحاد الأوروبي من تعزيز عناصر قوته وبناء مقاربة إستراتيجية لسياساته الخارجية والدفاعية، سيزيد وصول رئيس أمريكي مثل ترامب من تهميش دوره وموقعه العالمي.  

 

خطر العودة إلى الماضي التناحُريّ     

 شهدت أوروبا الغربية صعوداً مذهلاً لليمين المتطرف، بينما تراجع هذا التيار في أوروبا الوسطى والشرقية الشيوعية سابقاً، حيث سجَّل اليسار والوسط الليبرالي نتائج جيدة، والأرجح أن "أثر حرب أوكرانيا" كان له انعكاسه على تعبئة المؤيدين لأوروبا في هذا النطاق.    
 

لا تتمثل المفارقة فقط في مشهد منقسم جغرافياً وسياسياً، بل بسبب التزامن في التوقيت بين صعود التيار المنبثق من الإرث الفاشي التوتاليتاري مع احتفالات أوروبا في الذكرى الثمانين لإنزال النورماندي وبداية تحريرها من النازية.    

تمخض الاستحقاق الانتخابي عن برلمان أوروبي راسخ بقوة في اليمين، مع تواجُد أكبر لأقصى اليمين مما كان عليه في الهيئة التشريعية السابقة، من دون وصوله إلى حجم مهدِّد للفكرة الأوروبية.    

بالرغم من التجديد لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين المعتمِدة على تفاهُم الأحزاب التاريخية والخضر من مؤيدي التجربة الأوروبية، لا يمكن إنكار الإنذار الجِديّ والتحذير من " تطبيع" وضع أقصى اليمين كما جرى مع حزب جورجيا ميلوني في إيطاليا، ونَيْله ثقة الرأي العامّ الشابّ في بعض البلدان، مع ما ينطوي عليه ذلك من هاجس تكرار سيناريو ثلاثينيات القرن الماضي بحُلّة جديدة  مع "صعود الفاشية والقومية والحرب" حسب المؤرخ البريطاني تيموثي غارتون آش.    

للإحاطة بهذا التحوُّل عند الناخبات والناخبين يمكن ملاحظة تراجُع صورة الاتحاد الذي كان بالنسبة للكثيرين في البداية مرادفاً للازدهار والنمو، وأصبح الآن المرادف للتقشف والبطالة، ويمنح ذلك الذرائعَ لأصحاب الخطاب الانعزالي والقومي.    

وتتعدد دوافع الغضب: أبرزها الهجرة واللجوء، (الخوف على الهوية والسيادة)، الأمن، والقدرة الشرائية، توقُّف ديناميكية الاتحاد، واقتصاره على القطب الاقتصادي من دون أبعاد جيوسياسية وإستراتيجية كافية، بالإضافة إلى انعكاسات العولمة غير الإنسانية، وانتشار مظاهر انعدام المساواة وأزمة الطبقات الشعبية، التي تفاقمت مع التضخم بعد أزمة كورونا وحرب أوكرانيا؛ وترهل الأحزاب التقليدية وموجة صعود الهُوِيّات والأصوليات الدينية وغالبية هذه العوامل أدت للصعود الراديكالي المساوي للقلق حول المستقبل مع التساؤل عن وظيفة الاتحاد في المقام الأول.    

سيترتب على هذا الانعطاف اليميني تعزيز قوة الجماعات السياسية الأكثر راديكاليةً والأكثر عدائيةً للمشروع الأوروبي، في وقت تبدو فيه الحاجة ماسَّة إلى بلورة "أوروبا القوة"، والقطب الجيوسياسي في ظل موازين القوى العالمية الجديدة وارتسام القطبية الثنائية "الأميركية– الصينية".    

وفي السنوات الأخيرة، تم كسر اثنين من المحرَّمات الأوروبية منذ البريكست وهي: إمكانية مغادرة أحد الأعضاء الاتحاد، وسقوط فكرة السلام الدائم والاستقرار التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية وترادفت مع البناء الأوروبي المشترك، إذ تبين بعد حرب أوكرانيا في 2022 زعزعة فكرة استدامة السلام مع إدراك الأوروبيين أن الحرب التي اندلعت عند أطراف القارة يمكن لها أن تتوسع وتطالهم.  

 

  المخاوف الأوروبية من احتمال عودة دونالد ترامب  

يترقب الأوروبيون أيضاً الانتخابات الرئاسية الأميركية نظراً للتأثيرات المتبادلة، ولموقع واشنطن القيادي في الحلف الغربي والعالم، وهذه المرة تسود مخاوف معلنة أو مستترة من احتمال عودة الرئيس الأميركي السابق إلى سُدّة الحكم مرة أخرى، وانعكاساته على الصلة من أوروبا.    

بَيْد أن بعض الأوساط الأوروبية المعنية تتكلم عن المبالغة في مقاربة سياسات ترامب، إذ إن حقبة جو بايدن لم تشهد أي مرونة عملية أميركية في التعامل مع الضفة الأخرى من الأطلسي، ومن الأدلة إزاحة فرنسا من صفقة الغواصات مع أستراليا، ووضع الاتحاد الأوروبي تحت العباءة الأميركية في إدارة حرب أوكرانيا.   

وحقيقة الأمر، أنه بغضّ النظر عن الموجود في سُدّة الحكم، لطالما عملت الولايات المتحدة خلال أكثر من قرن من الزمان، على استمرار هيمنتها واحتواء أي قوة أوروبية تتجه لمنافستها.  

بالرغم من تعقيدات آلية صُنع القرار في الولايات المتحدة، يبدو دونالد ترامب بالنسبة لغالبية الدول الأوروبية شخصية "عدائية" استناداً لنهجه السابق، خاصة سعيه للتقارب مع روسيا، وتهديداته حول مصير حلف شمال الأطلسي وتمويله والعلاقات التجارية.    

يُتوقع أن تمر أوروبا بشكل عامّ -ولا سيما ألمانيا وفرنسا- بأوقات صعبة حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض، خاصة مع تهديداته المتكررة بحرب تجارية تتعلق بالمنتجات الزراعية والسيارات، إذ يرى أن الولايات المتحدة لا تحصل على حصة كافية من الأسواق الأوروبية.    

وفي الإجمال، تخشى أوروبا أن تتحول الولايات المتحدة تحت ولاية ترامب إلى قلعة أميركية حصينة يصعب التعامل معها.  

 

استمرارية التجربة الأوروبية  

يلعب عامل الوقت لصالح تعزيز التجربة الأوروبية، إذ إن الفكرة الأوروبية ترسخت تدريجياً، وأصبح الاتحاد الأوروبي حقيقة واقعة ومَعيشة، وهو يتدخل في العديد من المجالات (البيئة، السياسة الزراعية المشتركة، تعزيز الصناعة، الدفاع المشترك، الطاقة، العمل…) وقراراته تؤثر على حياة الناس، وغالباً ما يسمو القانون الأوروبي على القوانين الوطنية.  

في مُقارَبة للأولويات عند الأوروبيين، تطغى مسائل لها صلة بالملموس في الحياة اليومية مثل الهجرة والأمن، والإصلاحات الاجتماعية والتغيير المناخي قبل التركيز على امتلاك أوروبا كل مقوِّمات " القوة" وتحوُّلها إلى قطب جيوسياسي مؤثِّر على المسرح الدولي.     
 

يمتدح البعض مكاسب التجربة الأوروبية في السوق المشتركة والوحدة الاقتصادية، بينما يريدها البعض مجرد "اتحاد أُمَم ودول"، والبعض الآخر يطمح لتكون "الولايات الأوروبية المتحدة"، وليس منظمة أمم متحدة مصغرة لا تقرر كلياً مصيرها. ووراء كل ذلك تكمن الأولويات الوطنية والتناقُضات الأيديولوجية التي تقف حائلاً أمام بَلْوَرة أوروبا القادرة.