دبلوماسية الاستخبارات وهندسة التحوُّلات التركية
2023-01-251928 مشاهدة
بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا في يوليو/ تموز 2016، تصاعد دور وكالة الاستخبارات التركية برئاسة هاكان فيدان في إدارة العديد من ملفات السياسة الخارجية التركية، وخاصة مع تعدُّد وتنوُّع وتعقُّد هذه الملفات وتداخُل العديد من الأطراف الإقليمية والدولية.
وقد شهد عام 2022 وشهر كانون الثاني/ يناير 2023، مزيداً من التصاعد في هذا الدور في ثلاثة من أهم هذه الملفات، وهي الملف السوري والملف السوداني والملف الليبي.
ففي أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول 2022، عقد رئيس المخابرات التركية عدة اجتماعات مع مدير مكتب الأمن الوطني علي مملوك في دمشق، وارتبطت هذه اللقاءات في أحد جوانبها بضغوط قامت بها روسيا على تركيا لتطبيع علاقاتها مع النظام السوري، حتى تؤمِّن روسيا جبهتها في سورية في ظل تطوُّرات الأوضاع في أوكرانيا، في محاولة لمنع انهيار النظام اقتصادياً.
وفي 16 كانون الثاني/ يناير 2023، قام هاكان بزيارة إلى السودان، حيث التقى رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ومدير المخابرات العامة السوداني الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل، وقد جاءت هذه الزيارة بعد زيارة رئيس جهاز الاستخبارات المصري عباس كامل إلى السودان في 2 كانون الثاني، وكذلك بعد قيام السودان بتجديد شَكْواه ضدّ مصر، أمام مجلس الأمن الدولي، فيما يتعلق بالسيادة على مثلث حلايب في الرابع من نفس الشهر، وكذلك زيارة مدير المخابرات العامة السودانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية في السادس من كانون الثاني/ يناير 2023.
وفي 17 يناير/ كانون الثاني قام هاكان بزيارة إلى ليبيا، حيث أجرى عدة لقاءات مع كل من رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، ورئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، ورئيس جهاز المخابرات الليبية، الفريق حسين العائب، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، بحضور كل من وزيرة الخارجية والتعاون الدولي نجلاء المنقوش، ووزيرَي الدولة لشؤون مجلس الوزراء ورئيس الحكومة عادل جمعة والاتصال والشؤون السياسية وليد اللافي.
وجاءت زيارة رئيس المخابرات التركية بعد تعدُّد اللقاءات التي قام بها المسؤولون الليبيون مع المسؤولين المصريين، وبعد زيارة مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) وليام بيرنز إلى كل من طرابلس وبنغازي في 12 يناير/ كانون الثاني 2023، والتي التقى خلالها كلًا من الدبيبة وقائد قوات القيادة العامة المشير خليفة حفتر، والتي بحث خلالها قضايا مكافحة الإرهاب، وإنتاج النفط والغاز، وكذلك العلاقات مع روسيا، وأنشطة "فاغنر" في ليبيا، حيث تركز واشنطن على ليبيا ضِمن رؤية أشمل في صراعها مع روسيا، خاصة في الحرب الأوكرانية وتداعياتها على أمن الطاقة العالمي، نظراً لتواجُد "فاغنر" بها، وامتلاكها لأحد أكبر احتياطيات النفط والغاز في إفريقيا، وخشية واشنطن من أن تستخدم روسيا "فاغنر" لإغلاق الحقول والموانئ النفطية الليبية لزيادة الضغط على أوروبا، وكذلك لتجنيد مقاتلين ليبيين في صفوفها للقتال في أوكرانيا.
كما ارتبطت زيارة هاكان إلى طرابلس بمحاولة إزالة الخلافات ونزع أسباب التوتر بين حلفاء أنقرة في الغرب الليبي، وخاصة بين رئيس المجلس الأعلى للدولة ورئيس الحكومة، هذا الخلاف الذي يمكن أن يؤدي لانقسامات وصراعات يمكن أن تكون لها تداعياتها السلبية على المصالح والاتفاقيات التركية في ليبيا.
التعاطي التركي مع الملفات السورية والليبية والسودانية جاء على المستوى الأمني، نظراً لأنها ضِمن هذا المستوى دولياً، في غياب كامل للمستوى السياسي من مختلف الأطراف.
ويُلاحَظ أن تحرُّكات الدبلوماسية الأمنية التركية الأخيرة ارتبطت مع تحرُّكات وأدوار لأطراف خارجية في نفس الملفات، ففي الملف السوري ارتبطت التحركات بالدور الروسي، وفي السودان ارتبطت بالدور المصري والأمريكي، وفي ليبيا ارتبطت بالدور المصري والأمريكي، وإنْ كان هذا الارتباط يزيد من درجة التعقيد والتشابُك في هذه الملفات، إلا أنه يعكس كذلك أهمية الدور التركي فيها.
وتسعى تركيا في هذه الملفات إلى تحقيق هدفين رئيسيَّيْنِ، الأول هو الحفاظ على المكتسبات السابقة وتثبيتها، والثاني هو البحث عن فرص جديدة للتأثير، فأنقرة المقبلة على استحقاق سياسي مهمّ بعد عدّة أشهر ترغب في تعظيم المكاسب الخارجية التي يمكن استخدامها على المستوى الداخلي أولاً، وتعظيم الأوراق التفاوضية مع الفاعلين المؤثرين على المشهد التركي سياسياً أو اقتصادياً.