سوريا بعد الأسد واختبار جديد للعلاقة التركية مع دول الخليج العربي
2024-12-20402 مشاهدة
يُشكِّل سقوط نظام الأسد في سوريا على يد الفصائل الإسلامية تحدياً جديداً للمصالحة التي وصلت إليها تركيا ودول الخليج العربي المناهِضة لحكم الإسلاميين، حيث تدعم أنقرة استقرار سوريا بإدارتها الجديدة.
يُقدِّم مركز أبعاد للدراسات الإستراتيجية مادة مترجمة نشرتها مجلة World Politics Review يناقش فيها الكاتب جوناثان فينتون هارفي Jonathan Fenton Harvey الاختبار الذي يُشكّله المشهد الجديد في دمشق على العلاقات التركية السعودية الإماراتية حالياً ومستقبلاً.
نصّ الترجمة
بشكل مفاجئ سقط نظام بشار الأسد إثر الهجوم الخاطف الذي قامت به الفصائل بقيادة هيئة تحرير الشام، الأمر الذي قد يؤدي إلى وضع المصالحات الإقليمية التي حصلت في الشرق الأوسط خلال السنوات الأربع الماضية في اختبار حقيقي، وخاصة على العلاقات بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي التي تباينت مواقفها تجاه سوريا، وإنْ بدرجات متفاوتة، وسيستمر هذا التباين بعد الإطاحة بالأسد، حيث تسعى هيئة تحرير الشام إلى توطيد سيطرتها على البلاد وبَدْء الجهود نحو إعادة الإعمار.
مع تحوُّل الاحتجاجات السلمية ضدّ الأسد التي اندلعت عام 2011 إلى صراع مسلح وحرب واسعة، أصبحت سوريا ساحة لنزاع جيوسياسي حادّ بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي من جهة، وإيران من جهة أخرى، وقد أدى التباين بين أنقرة وبعض دول الخليج فيما يتعلق بالشركاء الفاعلين على الأرض إلى جَعْل سوريا سبباً للصراعات الإقليمية، وزادت هذه الصراعات تفاقُماً بفعل التوتُّرات بين الجانبين نتيجة الحصار الذي قادته عام 2017 السعوديةُ والإماراتُ ضدّ قطر الشريك الخليجي لتركيا.
كانت حِدّة القتال قد انخفضت في سوريا بشكل كبير منذ آذار/ مارس 2020 عقب عملية أستانا التي جمعت تركيا وروسيا وإيران، وقد جمّد ذلك الاتفاق الصراع مع الإبقاء على سيطرة الفصائل الثورية المنضوية تحت حماية تركيا على محافظة إدلب شمال سوريا، ومنذ ذلك الحين اكتسبت الجهود الرامية إلى التقارب بين أنقرة والإمارات والسعودية زخماً، خاصة مع نهاية الأزمة الخليجية عام 2021.
الآن قد تختبر الأحداث الجارية في سوريا ما إذا كانت هذه القُوى الإقليمية قادرة على الاستمرار في الفصل بين خلافاتها الجيوسياسية، أو أن تبايُن مصالحها سيُعرّض جهود التقارُب بينها للخطر.
لقد أظهرت القُوى الجيوسياسية الثلاث الكبرى في مجلس التعاون الخليجي، الإمارات والسعودية وقطر، انقسامات واضحة في ردود أفعالها تجاه التطوُّرات في دمشق، وتبدو أبوظبي هي الأكثر قلقاً بين هذه الدول، حيث دعمت بشكل غير علني الأسد وقادت الجهود لإعادة الديكتاتور السوري إلى الحضن العربي في السنوات الأخيرة، وفي الواقع دعمت الإمارات التدخل العسكري الروسي لصالح الأسد عام 2015، مخالفة بذلك تركيا وباقي دول مجلس التعاون الخليجي في ذلك الوقت، بعد أن كانت قد دعمت في وقت سابق بعض الفصائل الثورية لإحداث توازُن في مقابل فصائل إسلامية مثل جماعة الإخوان المسلمين وأحرار الشام، دون هدف الإطاحة بالأسد، وفي كانون الأول/ ديسمبر 2018 أصبحت الإمارات أول دولة عربية تُجري تواصُلاً دبلوماسياً مع النظام في سوريا منذ تعليق عضويته في جامعة الدول العربية عام 2011.
أنور قرقاش المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات صرح مباشرة في أعقاب سقوط الأسد عن مخاوفه من حكومة تقودها هيئة تحرير الشام، مُحذِّراً من استغلال الجهات غير الحكومية للفراغ الحالي في السلطة في دمشق، وحذر من احتمال ظهور "الفوضى" و"التطرف" في سوريا.
إن العداء التقليدي للإمارات تجاه الحركات الإسلامية كان دافعاً رئيسياً للتوتُّرات السابقة مع قطر وتركيا، وهذا ما يجعل فكرة وجود حكومة تقودها هيئة تحرير الشام في سوريا أمراً مُقلِقاً، كما أن تفضيل أبو ظبي للقادة الاستبداديين يجعلها حَذِرة من الدعم الشعبي لإزالة الأسد في سوريا، خوفاً من أن يشجع ذلك الدعواتِ المناهضةَ للاستبداد في أماكن أخرى من المنطقة، وفي جميع الأحوال فإن السيطرة التي تقودها هيئة تحرير الشام قد وضعت حدّاً للمقامرة الإماراتية بدعم الأسد واستثماره وسيلة لضمان النفوذ المستقبلي في دمشق، مما ترك أبوظبي في وضع محدود من حيث النفوذ في البلاد.
في المقابل فإن السعودية تشارك الإمارات في مخاوفها من وجود حكومة إسلامية في سوريا، وكانت الرياض قد تبعت أبو ظبي في تطبيع العلاقات مع الأسد، لكن الرياض تبنَّت نهجاً أكثر توازُناً تجاه التطوُّرات الأخيرة في دمشق، مؤكدة على الحوار ومستقبل سياسي شامل لسوريا، ومن الجدير بالذكر أن الرياض أكدت أنها قد أسست قنوات تواصُل مع جميع الأطراف الإقليمية وخاصة تركيا، مما يبرز رغبة السعوديين في تقليل التداعيات الإقليمية وتركيز جهودهم على التعاون.
وفي الوقت نفسه أبدت قطر استعداداً للمشاركة بشكل نَشِط مع الحكومة التي تقودها هيئة تحرير الشام، ودعمها لقنوات خلفية بين السلطات الجديدة في دمشق وتركيا وروسيا وإيران والغرب، حيث تم التواصل مباشرة مع رئيس الوزراء المؤقت محمد بشير للقيام بذلك، وإذا استمرت قطر في هذا الدور فإن ذلك سيعزز من مصداقيتها الدبلوماسية الإقليمية، التي ظهرت مسبقاً من خلال وساطتها في المحادثات بين إسرائيل وحماس منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وستكون هذه العلاقات والروابط التي تمتلكها قطر إلى جانب قدراتها المالية ميزة كبيرة تقوي موقع الدوحة وقدرتها على تشكيل اتجاه المرحلة الانتقالية ما بعد الأسد، وقد أعلنت قطر عن إعادة فتح سفارتها في دمشق لأول مرة منذ أن هاجمها موالون للأسد في تموز/ يوليو 2011، مما يُظهر كيف أن دعمها للمعارضة السورية قد أثمر في النفوذ في سوريا ما بعد الأسد.
إنَّ العلاقات الوثيقة بين قطر وتركيا قد تسمح لكِلا الجانبين بتنسيق مصالحهما، وفي موقف مماثل لموقف الدوحة فإن أنقرة قد عارضت أيضاً حكم الأسد بسبب قمعه العنيف لحركات المعارضة السلمية في البداية والفظائع التي ارتكبها لاحقاً، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية أثناء حربه ضدّ شعبه، كما أدى دعم تركيا للجيش الوطني السوري الذي كان متمركزاً سابقاً في إدلب، والذي كان له دور أيضاً في الإطاحة بالأسد، إلى زيادة نفوذها الآن على التطوُّرات المستقبلية في دمشق.
يواصل عناصر من الجيش الوطني السوري بدعم تركي حملة عسكرية في شمال شرقي سوريا ضدّ قوات سوريا الديمقراطية "قسد" المدعومة من الولايات المتحدة، وتنظر أنقرة إلى قسد على أنها ميليشيا كردية سورية تشكل فرعاً من حزب العمال الكردستاني PKK، وهو تنظيم كردي تركي إرهابي متمرّد ومحظور تقاتله تركيا منذ عقود.
تركيا التي كانت حريصة على عودة ملايين اللاجئين السوريين الذين تستضيفهم حالياً إلى ديارهم تريد تجنُّب موجة أخرى من اللاجئين في حدودها الجنوبية؛ ولهذا السبب لديها حوافز أكبر لدعم الجهود الرامية إلى تحقيق الاستقرار في سوريا، وبينما قد يتشارك جميع الفاعلين الإقليميين في هذا الهدف، فإن خلافاتهم حول المسار الطويل الأمد لسوريا واضحة، مما يعكس تبايُنهم المستمر في النهج تجاه القضايا الإقليمية.
إضافة إلى سوريا وأزمة الخليج 2017 فقد وجدت السعودية والإمارات من جهة وتركيا من جهة أخرى تموضعها على طرفَيْ نقيض في صراعات إقليمية أخرى، بما في ذلك في ليبيا والقرن الإفريقي، وكانت الرياض وأبو ظبي تنظران إلى الأسد على أنه مركز توازُن في سوريا ضدّ النفوذ الذي مارسته تركيا من خلال الفصائل الثائرة الواقعة تحت حمايتها في إدلب وشمال سوريا.
من المحتمل خلال المدى القصير على الأقل أن تؤدي أيّ خلافات حول سوريا إلى تعطيل شيء من التحسُّن الأخير الذي طرأ على العلاقات، فمنذ قمة العلا (التي شهدت المصالحة الخليجية) في كانون الثاني/ يناير 2021 سعى الفاعلون الإقليميون إلى طيّ صفحة خلافاتهم وتركيز الجهود على التعاون. ومنذ أن خفّت حِدّة تنافُسهم قامت أنقرة ودول الخليج أيضاً بتحسين علاقاتهم الاقتصادية، بما في ذلك السعي نحو اتفاقية تجارة حرّة تركية خليجية، يمكن أن تخلق واحدة من أكبر مناطق التجارة الحرّة في العالم، بقيمة إجمالية تصل إلى 2.4 تريليون دولار، إضافة إلى أن مبيعات الطائرات المسيَّرة التركية إلى الإمارات والسعودية والكويت تسلط الضوء على جهود جميع الأطراف لتعزيز الروابط الأمنية في عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد، وبالتالي فإن هذا يشير إلى أن المسار طويل الأمد لعلاقاتهم وحرصهم على عدم تعطيله قد يخلق حوافز للتعاون بشأن سوريا.
أما بالنسبة لإيران فلم تجد أيّ من دول الخليج العربي الرغبة في أن تكون في طليعة التصدي لطهران؛ بسبب جهودها لتهدئة التوتُّرات منذ عام 2023 ورغبتها في تجنُّب الانجرار إلى حرب إقليمية بين إيران وإسرائيل، لكنهم إضافة إلى تركيا يراقبون بصمت، راضين عن تدهور حال عملاء طهران في لبنان، والآن في سوريا، حيث تدمير إسرائيل لحزب الله بما في ذلك قتل زعيمه حسن نصر الله في أيلول/ سبتمبر 2024، إلى جانب سقوط الأسد، قد أضعف بشكل فعّال تواجُد إيران في المنطقة.
لقد وجدت السعودية أيضاً أرضية مشتركة مع قطر وتركيا في إدانة احتلال إسرائيل للمنطقة العازلة في الأراضي السورية خارج هضبة الجولان (المنطقة منزوعة السلاح 1974)، وكذلك هجماتها على المواقع العسكرية السورية ومستودعات الأسلحة، كما انتقدت دول الخليج خُطَط إسرائيل لزيادة سكانها في هضبة الجولان باعتبارها عملاً تخريبياً ضدّ سيادة سوريا واستقرارها، ومن الواضح أن إسرائيل قَلِقة من سقوط أسلحة نظام الأسد في أيدي حكومة إسلامية على حدودها، لكن الرياض والدوحة وأنقرة حذّرت من خطر زعزعة استقرار سوريا في لحظة انتقالية.
في النهاية، قد تأمل دول الخليج أن يؤدي نفوذ تركيا المدعوم بالحوافز التي يقودها الغرب إلى دفع هيئة تحرير الشام والحكومة الانتقالية السورية نحو الاعتدال، وقد نجحت الهيئة حتى الآن في اتخاذ خُطوات ساعدت في كسب تأييد واشنطن، حيث وعدت بحماية الأقليات وبأنها ستحدّ من فترة ولاية رئيس الوزراء محمد البشير حتى آذار/ مارس 2025، ومع ذلك يبقى المستقبل غير مؤكد فيما يتعلق بما سيحدث بعد هذه الفترة، وما إذا كان سيتم صياغة دستور جديد في تلك الفترة الانتقالية.
إذا تولّى المتنافسون السابقون في الشرق الأوسط زمام المبادرة للتعاون والعمل من أجل سوريا مستقرة، فقد يكون لذلك دورٌ حاسمٌ في توحيد البلاد، ومع ذلك فإذا فشلت الجهود الأوسع لدعم استقرار سوريا، أو إذا تحوّلت الأوضاع بعد الأسد إلى الأسوأ، فقد تلجأ الدول الإقليمية مرة أخرى إلى دعم الفاعلين السوريين المتنافسين الذين تتماشى أهدافهم مع مصالحها، مما قد يؤدي إلى حدوث احتكاك بين تلك الدول.
لكن في الوقت الحالي لا يزال هناك أمل في أن تتمكن السعودية والإمارات وقطر وتركيا من الاستمرار في العمل معاً، بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، للمساهمة في تشكيل مستقبل مستقرّ وموحَّد لسوريا.
ترجمة: عبد الحميد فحام
المصدر: (موقع World Politics Review)