هل تشهد روسيا انتخابات رئاسية تنافُسية أم مجرد عملية إجرائية؟
2024-02-12919 مشاهدة
تُجرى في الفترة من 15 إلى 17 آذار/ مارس 2024، الانتخابات الرئاسية السابعة في الاتحاد الروسي بعد تفكُّك الاتحاد السوفياتي، والتي جرت في الأعوام (1996 و2000 و2004 و2008 و2012 و2018)، والثامنة في تاريخ البلاد. نناقش في مقالة رؤى أبعاد هذه تاريخ الانتخابات الرئاسية في روسيا، والمرشحين المعتمدين بشكل رسمي لخوضها، ونختتم بالاستنتاجات النهائية.
تاريخ الانتخابات الرئاسية في روسيا
انتخابات رئاسية تحت ظلال الاتحاد السوفياتي
جرت أول انتخابات رئاسية تعدُّدية في تاريخ روسيا، يوم 12 حزيران/ يونيو 1991، بعد عام واحد بالضبط من "إعلان سيادة الدولة في جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية"، كجزء من برنامج البيريسترويكا "إعادة الهيكلة" الذي أطلقه الرئيس الأخير ميخائيل غورباتشوف، لمنح صلاحيات واسعة النطاق للجمهوريات السوفياتية.
خاض هذه الانتخابات ستة مرشحين، هم بوريس يلتسن، ونيكولاي ريجكوف، وفلاديمير جيرينوفسكي، وأمان تولييف، وألبرت ماكاشوف، وفاديم باكاتين. كل هؤلاء المرشحين كانوا كوادر سابقة في الحزب الشيوعي السوفياتي، باستثناء جيرينوفسكي، الذي تبنى منذ عام 1988، أيديولوجية ليبرالية قومية. اللافت في هذه الانتخابات، غير المسبوقة في تاريخ البلاد أو الاتحاد السوفياتي وقتذاك، أنها كانت عبارة عن استنساخ شِبه كامل من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث اُشترط على كل مرشح أن يختار له نائباً يتم الاقتراع عليه في بطاقة واحدة مع الرئيس، وتم إجراء مناظرات انتخابية بين المرشحين (فقط بوريس يلتسن رفض المشاركة فيها)، كما طالبت الحملات الرئاسية المؤيدين بجمع التبرعات، الاختلاف الوحيد كان مدة الرئاسة التي تم تحديدها بخمس سنوات. فاز بالانتخابات بوريس يلتسن ونائبه ألكسندر روتسكوي، بنسبة 57.30%، وحل نيكولاي ريجكوف ونائبه بوريس غروموف، في المرتبة الثانية، بنسبة 16.85%. وبلغت نسبة التصويت 76.66%.
كيف مهد الليبراليون للحكم المطلق في روسيا؟
في عام 1993، جرى تعديل على الدستور، قصر مدة الرئاسة على أربع سنوات بدلاً من خمس، وتم إلغاء منصب نائب الرئيس، وذلك بعد الأحداث الدامية لما تُسمى "الأزمة الدستورية في روسيا (1992-1993)"، بين يلتسن، الذي انحاز له رئيس مجلس الوزراء فيكتور تشيرنوميردين، وعمدة موسكو يوري لوجكوف. مقابل رئيس البرلمان رسلان عمرانوفيتش حسبولاتوف، ونائب الرئيس روتسكوي، وغالبية النواب. وقد أدت هذه الأزمة لصراع مسلح بين الطرفين، انتهت بضرب القوات الموالية ليلتسن مقر البرلمان المسمى "البيت الأبيض" بالدبابات، ونتج عن هذه الأزمة منح الأخير صلاحيات شِبه مطلقة، بعدما كانت السلطة موزَّعة ما بين الرئيس ورئيس مجلس الوزراء والمجلس الأعلى للاتحاد الروسي "البرلمان ذو الغرفتين".
كان الصراع في هذه المرحلة بين الجناح الليبرالي الموالي للغرب، الراغب في إجراء تحوُّل رأسمالي سريع وبلا أي قيود، وفتح البلاد على مصراعيها للقوى الغربية، والاندماج معها. مقابل جناح آخر، يريد إصلاحات ديمقراطية رأسمالية، لكن بشكل تدريجي، تراعي مصالح روسيا وَفْق متطلبات أمنها القومي. تم اعتبار هذا الجناح "معطلاً" لعملية التحول المطلوبة للتخلص من الإرث السوفياتي، ولذلك انحاز الليبراليون الموالون للغرب، والأوليغارشية الجديدة، للرئيس يلتسن، ومنحوه بعد هذا "الانتصار" صلاحيات شِبه مطلقة. متخيلين أنهم عَبْرها قادرون على التحكُّم في سياسة روسيا من الخلف، نتيجة ضعف يلتسن ومرضه، وحالة السكر شِبه الدائمة التي كان عليها. وقد قاموا بدعمه في انتخابات عام 1996، التي تمكن فيها من النجاح بصعوبة في جولة الإعادة أمام مرشح الحزب الشيوعي للاتحاد الروسي غينادي زيوغانوف، في انتخابات شابها التزوير والتلاعب، وَفْق الشهادات الأمريكية، والروسية فيما بعدُ، وقد أكد ميدفيديف، ذلك الأمر، وهو ما جعل يلتسن، مديناً لهم ببقائه في السلطة، وعليه سلم لهم تقريباً كافة مقاليد الحكم في البلاد، وكان "الأوليغارشيون اليهود السبعة" كما أُطلق عليهم شعبياً هم حكام روسيا على الحقيقة.
بعد وصول فلاديمير بوتين للسلطة عام 2000 -الذي وللمفارقة تم اختياره من قِبل هذه المجموعة الموالية للغرب- عمد إلى التخلص من كل مراكز القوى والأوليغارشية، واستفاد من هذه الصلاحيات المطلقة، التي كرست لنظام حكمه المطلق. لاحقاً أبدت هذه القوى ندمها الشديد، على التعديلات التي قاموا بإجرائها في الدستور، ومهّدت لحكم بوتين "الديكتاتوري" وَفْق وصفهم.
انتخابات بوتين الخمسة
خاض بوتين، أربعة انتخابات، ويستعد لخوض الخامسة من أصل سبعة انتخابات رئاسية في كل تاريخ روسيا. كانت الأولى عام 2000، وبدعم من الأوليغارشية التي حكمت من الخلف أثناء رئاسة يلتسن، وأُعيد انتخابه في 2004، حيث لم يكن يسمح الدستور للرئيس سوى بالبقاء في السلطة لفترتين رئاسيتين بحد أقصى، مدة كل فترة 4 سنوات، لذا لم يعمد إلى تعديل الدستور، ودفع بالنائب الأول لرئيس حكومة الاتحاد الروسي، وابن مدينته (سانت بطرسبورغ)، وصديقه، ديمتري ميدفيديف، للترشح للرئاسة لعام 2008، وبعد فوزه بها قام بإجراء تعديل في نهاية نفس العام، لمد مدة الرئاسة لمن سيخلفه من أربع إلى ست سنوات، وعين بوتين رئيساً لمجلس الوزراء، كما شملت التعديلات منح الرئيس سلطات واسعة على تعيينات القضاء.
في عام 2011، وَفْق الاتفاق بين الطرفين، أعلن ميدفيديف، أنه لن يترشح للرئاسة، وأن بوتين، هو الأحق بهذا المنصب، وذلك بعد "تفكير طويل" وَفْق تعبيره، وأنه يدعمه، ويطالب كل مؤيديه بدعمه، وبالفعل ترشح بوتين، وفاز بالانتخابات بنسبة 63.60%، أمام أربعة مرشحين، وبلغت نسبة التصويت 65.34%. تكرر المشهد في انتخابات عام 2018، وفاز بوتين بنسبة 76.69%، أمام ستة مرشحين، وبلغت نسبة التصويت 67.54%. وكان من المفترض أن تنتهي ولايته في عام 2014، دون إمكانية ترشُّحه من جديد كونها الولاية الثانية له.
اقترح بوتين في 15 كانون الثاني/ يناير 2020، إجراء تعديلات على الدستور الروسي، وإضافة عدة بنود جديدة تعزز من دور الرعاية الاجتماعية للدولة تجاه المواطنين، وتعتبر الاتحاد الروسي وريثاً شرعياً للإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي، وعدم إمكانية تولي الرئيس سوى مدتين رئاسيتين في العمر، ومنح رئيس البلاد حصانة قانونية بعد تركه للرئاسة، ومنصب عضوية مجلس الشيوخ "الغرفة العليا" مدى الحياة، وبعض المواد الأخرى التي تعزز الجانب الديني المحافظ.
في اللحظات الأخيرة اقترحت أول رائدة فضاء في العالم والعضو في حزب روسيا الموحدة، فالنتينا تيريشكوفا، إجراء تعديل إضافي، يسمح لبوتين بالترشح لمدتين رئاسيتين، وعدم تطبيق القواعد الجديدة للدستور عليه بأثر رجعي، مما يسمح له بالبقاء في السلطة (حال انتخابه) حتى عام 2036. وقد حضر بوتين بنفسه الجلسة، وأكد أنه لا "يحبذ مثل هذا التعديل" لكنه "لن يعترض عليه حال أقره النواب ثم الشعب"، وهو ما جرى عَبْر استفتاء شعبي، جرى على إثره دخول التعديلات الجديدة حيِّز التنفيذ في الرابع من تموز/ يوليو 2020.
المرشحون المعتمَدون بشكل رسمي
اعتمدت، لجنة الانتخابات المركزية للاتحاد الروسي، يوم الثامن من شباط/ فبراير، أسماء المرشحين الذين سيشاركون في الانتخابات الرئاسية الروسية في آذار/ مارس من هذا العام. وفقاً لرئيسة اللجنة إيلا بامفيلوفا: "بعد مراجعة كافة أوراق المتقدمين للترشح، أصبح من الواضح لدينا تماماً أنه سيكون هناك أربعة مرشحين لخوض الانتخابات، تم اعتمادهم رسمياً". المرشحون الأربعة هم: (فلاديمير بوتين، ونيكولاي خاريتونوف، وليونيد سلوتسكي، وفلاديسلاف دافانكوف). وتم رفض أوراق ثلاثة مرشحين، لعدم كفاية المستندات.
نبذة عن المرشحين المعتمَدين
فلاديمير بوتين: يبلغ من العمر 71 عاماً، رئيس الاتحاد الروسي الحالي. أعلن عن ترشُّحه، بعدما أصدرت "الجبهة الشعبية من أجل روسيا"، بياناً تطالبه فيه بالترشح، في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2023، وهي تحالُف من عدة حركات وجمعيات سياسية واجتماعية، أسَّسها بوتين عام 2011، عندما كان رئيساً للوزراء. في اليوم التالي أعلن حزب (روسيا الموحدة "يمين محافظ") الذي أسسه بوتين، دعمه للترشح للانتخابات، تبعه يوم 23 من نفس الشهر، حزب (روسيا العادلة من أجل الحقيقة "يسار وسط"). يخوض بوتين الانتخابات بصفة مرشح "مستقلّ"، لأنه يفضل وَفْق ما صرح به، أن يكون "رئيساً لكل الروس" لا ينتمي لحزب بعينه.
نيكولاي خاريتونوف: مرشَّح عن (الحزب الشيوعي للاتحاد الروسي "أقصى اليسار"). يبلغ من العمر 75 عاماً، حاصل على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية، تولى رئاسة لجنة مجلس الدوما لتنمية الشرق الأقصى والقطب الشمالي منذ 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2021. كرمه بوتين، عام 2023، بمنحه وسام "بطل العمل في الاتحاد الروسي"، وهو على قائمة العقوبات الغربية.
ليونيد سلوتسكي: يبلغ من العمر 56 عاماً، مرشَّح عن (الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي "أقصى اليمين القومي"). يرأس الحزب منذ عام 2022، بعد رحيل مؤسسه جيرينوفسكي، رئيس لجنة مجلس الدوما للشؤون الدولية منذ 5 تشرين الأول/ أكتوبر 2016. حاصل على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية، اتُّهم عدة مرات بالتحرش، وطالته عدة اتهامات بالفساد والرشوة، وهو على قائمة العقوبات الغربية.
فلاديسلاف دافانكوف: عن (حزب الشعب الجديد "ليبرالي محافظ"). يبلغ من العمر 39 عاماً، حاصل على الدكتوراه في علم الاجتماع، نائب في مجلس الدوما منذ عام 2021، وهو على قائمة العقوبات الغربية.
التبايُنات بين مرشحي الرئاسة
لا يوجد تقريباً تبايُنات عميقة بين المرشَّحين المنافسين لبوتين؛ جميعهم أيَّد ما تُسمَّى "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، وهم متعرضون على إثر ذلك لعقوبات الغرب الجماعي، ولديهم من الغرب مواقف معادية، كما أنهم داعمون للخطّ العامّ لسياسات بوتين الخارجية، تكمن بعض الاختلافات في جوانب السياسات الداخلية، بين مَن يطالب بمزيد من التحرر الرأسمالي (مرشح حزب الشعب، دافانكوف)، أو مزيد من دور للدولة في الدعم الاجتماعي، ومكافحة الفساد (مرشح الحزب الشيوعي، خاريتونوف)، أو مزيد من المواقف القومية، والمواقف الحادّة تجاه الغرب (مرشح الحزب القومي، سلوتسكي).
لا يطرح أحد من المرشحين نفسه بديلاً جادّاً عن بوتين، ولا يقدم رؤية مختلفة لسياساته الداخلية والخارجية في الجوهر. كما أن الملاحظ في المرشحين الثلاثة، أنهم إما طاعنون في السن، وهو ما يمثل "عقدة" للرأي العامّ الروسي، الذي عانى من حكم العجائز في الأعوام الثلاثين الأخيرة من عمر الاتحاد السوفياتي. أو ذَوُو سن صغيرة، بلا خبرة، في ظل مجتمع أبويّ، أو لديه سجل سيئ من الاتهامات بالرشوة والفساد والتحرُّش. وعليه يبدو بوتين المرشح الأوفق لأمزجة المجتمع الروسي، في ظل عدم وجود بديل مقنع وجادّ، وقادر على إقناع المجتمع الروسي بأن حياتهم ستكون أكثر أماناً ورفاهيةً.
الاستنتاجات
النظام الرئاسي في روسيا، كان يتمتع سابقاً بتوزيع متوازن للسلطة، بين الرئيس، ورئيس مجلس الوزراء، والبرلمان بغرفتيه، وقد حرص الروس في بناء "ديمقراطيتهم" الوليدة بعد تفكُّك الاتحاد السوفياتي، على عدم حصر السلطة في جهة واحدة، لتجنُّب ميراث طويل من الاستبداد، عانت منه البلاد في الحقبة الإمبراطورية وما تلاها بالحقبة السوفياتية.
لكن انتهازية الليبراليين الروس، والأوليغارشية الجديدة ما بعد الاتحاد السوفياتي، ورغبتهم بأن تكون السلطة بيدهم حصراً، بجانب خشية الولايات المتحدة والغرب، من عودة الشيوعيين عَبْر بوابة الديمقراطية بعدما فشلت "إصلاحات" يلتسن، أدت لتحالف كافة هذه الأطراف الداخلية والخارجية، لوَأْد التجربة الديمقراطية الروسية في مهدها، ومنح الرئيس صلاحيات مطلقة، معتقدين أنهم قادرون على اختيار رئيس ضعيف يحكمون عَبْره البلاد من الخلف.
لكن بوتين استفاد من هذه الصلاحيات المطلقة، التي كان يصعب إقرارها، وبحاجة لوقت طويل، وتخلص بدهاء من كافة مراكز القوى، بعدما أوهمهم بأنه شخصية ضعيفة، سيكون تابعاً لهم، وهو ما مكّنه من الانفراد بالحكم المطلق.
التعديلات الدستورية الأخيرة التي تم إقرارها عام 2020، تُمكِّن بوتين -حال بقي على قيد الحياة بصحة جيدة- من البقاء في السلطة حتى عام 2036.
نتيجة حالة الصراع الحالية بين روسيا والغرب، وإفراط الأخير في فرض عقوبات قاسية، وغير مسبوقة في التاريخ، تضرر منها المواطن الروسي أولاً، لم تَعُد الديمقراطية، ولا حتى الانتخابات، تمثل أهمية بالنسبة لعموم الروس، الذين أصبحوا معبَّئِين كرهاً ضد الغرب، ويتم تعزيز هذا الاتجاه عَبْر الدعاية الداخلية، وهو ما يضمن لبوتين انتصاراً سهلاً دون منافسة حقيقية.
يوصف "هيكل شخصية الشعب الروسي" من قِبل علماء الاجتماع الروس أنفسهم، بأنها شخصية تميل نحو "الحد الأقصى" في كل شيء، إما سعي حثيث نحو الاستقرار حدّ الجمود، أو الثورة بشكل عنيف وشِبه دائم. في الوقت الحالي وفي ظل عدم وجود تبايُنات حقيقية بين مرشحي الرئاسة، وهيمنة أجهزة الدولة على المجال العامّ، وتبعيتها للكرملين، وغياب المنافسة الحقيقية، وهجرة العقول، والتدهور الديمغرافي في عدد الشباب، تبدو الأوضاع في روسيا "مستقرة"، ولا مجال لأي تحرُّكات "ثورية" و/أو محاولة للتغيير عَبْر الآليات الدستورية.
تبدو العملية الانتخابية، في ظل ما تم شرحه من أوضاع، وضعف المنافسين، ودعمهم وتأييدهم لسياسات بوتين في المجمل، مجرد عملية إجرائية لازمة لأجل الشكل الدستوري، وليست انتخابات حقيقية، ونتائجها تكاد تكون محسومة سلفاً، ليظل بوتين رئيساً لروسيا حتى عام 2030، بسهولة ودون معوّقات. ربما سيكون التحدي الحقيقي، الذي سيواجه بوتين هو "اليوم التالي لوقف الأعمال العسكرية" في أوكرانيا، وما سيترتب عليها من نتائج، وحتى يأتي هذا اليوم، تبدو روسيا متجهة بشكل كامل نحو إعادة انتخاب بوتين.