لماذا غفلت إسرائيل؟

لماذا غفلت إسرائيل؟

2023-12-02
1004 مشاهدة


نشر موقع "فورين أفيرز" بتاريخ 22 تشرين الثاني/ نوفمبر مادة حملت عنوان "لماذا غفلت إسرائيل؟" تحدث خلالها الكاتبان "عاموس يادلين" و"أودي إيفينتال" باستفاضة عن أسباب نجاح هجوم حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وفشل إسرائيل الاستخباراتي في توقُّع مثل تلك الهجمات من حركة قابعة على تخوم الدولة العبرية، كما تطرق الكاتبان إلى مواضيع تتعلق بأهداف الحرب التي يشنها الجيش الإسرائيلي على القطاع رداً على هجمات حماس، وعن ضرورة إيجاد تحالفات لبناء تحالف يضم دولاً عربيةً يؤدي إلى التخلص من حماس.

نصّ الترجمة:

لقد قامت حركة حماس في الهجوم المباغت الذي شنته في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول بقتل عدد من الإسرائيليين عندما تسلل الآلاف من نخبة مقاتلي الحركة من قطاع غزة إلى المستوطنات والمدن الصغيرة في جنوب إسرائيل، وكان الهجوم مدمراً للشعب الإسرائيلي، حيث قُتل حوالَيْ 1200 شخص في ذلك اليوم (أي ما يعادل حوالَيْ 42500 أمريكي، تناسُباً مع عدد السكان في الولايات المتحدة) وتم اختطاف حوالَيْ 240 شخصاً، وتم نقلهم إلى شبكة الأنفاق الواسعة التابعة لحماس تحت غزة.

وكان ذلك مدمراً أيضاً للدولة الإسرائيلية، ففي ذلك اليوم المشؤوم، انهارت العقيدة الأمنية التي ظلت راسخة في البلاد في مواجهة أَعْتَى العواصف؛ ونتيجة لذلك لم تتمكن مؤسساتها الاستخباراتية والعسكرية من الحفاظ على سلامة المواطنين. لسنوات عديدة سمحت المؤسسة السياسية والعسكرية في البلاد بوجود كتلة من التهديدات التي لا يمكن احتمالها من خلال السعي إلى الحفاظ على الوضع الراهن في الصراع مع الفلسطينيين وإقامة تسوية مؤقتة مع سلطة الأمر الواقع التي أنشأتها حماس في غزة، بهدف تمديد فترات الهدوء.

لا تستطيع إسرائيل العودة إلى الوضع الراهن الذي كان قائماً قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ومهمة الدولة الآن هي إعادة جميع الرهائن إلى الوطن ومنع حماس وغيرها من الخصوم، وأبرزهم جماعة حزب الله اللبنانية المدعومة من إيران، من أسر المزيد من الرهائن أو شنّ هجمات إرهابية ضد مواطنين إسرائيليين أو تشكّل تهديدات مباشرة لأمنهم. وفي الوقت نفسه، يتعين على الحكومة والمؤسسة السياسية أن تتحمل المسؤولية عن أخطائها الإستراتيجية، كما ينبغي عليهم إعطاء الأولوية لمصالح الأمن القومي وتفضيلها على البقاء السياسي في السلطة والعمل على تعزيز الوحدة بين الإسرائيليين، وإعدادهم لمواجهة الأوقات الصعبة والتحديات التي تنتظرهم. وبمجرد زوال الخطر الذي تفرضه حماس، يتعين على إسرائيل أن تجدد عملية تعزيز الترتيبات الأمنية والسياسية المستقرة مع الفلسطينيين.

يجري حالياً تحوُّل ضروري في الواقع الراهن، لكن يمكن أن تتغير التوجُّهات تبعاً للتطورات المتلاحقة. ومن أجل مستقبل إسرائيل، يجب على هذا الأمر أن يدفع المؤسسات الدفاعية والإستراتيجية الأمنية في البلاد إلى العودة نحو بعض المبادئ الأساسية التي انحرفت عنها في السنوات الأخيرة.

اعرف عَدُوَّك

لقد صِيغت عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي في البداية في منتصف القرن العشرين في عهد أول رئيس وزراء للبلاد، ديفيد بن غوريون، وتم تحديثها على مدى العقود الماضية لتشمل أربع ركائز رئيسية: الردع، والإنذار المبكر، والدفاع، والنصر الحاسم.

إن مبدأ الردع هو أمر معقَّد، يمكن ملاحظة تراجُعه في الوقت الحَرِج، ولكن لا يتضح انهياره النهائي إلا في أوقات لاحقة. في هذه الحالة، كانت هناك أسباب عديدة جعلت حماس تشعر أنه لا وجود لأي نوع من أنواع الردع وجعلتها تستنتج أن الوقت قد حان للهجوم، وبسبب اعتماد إسرائيل المفرط على الردع، وقبولها الضمني لتَراكُم قوات حماس في غزة (الذي سهلته التمويلات والخبرات الإيرانية)، استطاعت الحركة تحقيق مستوى عالٍ غير معتاد من الجاهزية العملياتية لتنفيذ هجوم كبير، كما حددت الحركة أيضاً نقاط ضعف كبيرة في دفاعات إسرائيل حول غزة. ربما تكون حماس قد حسبت أن هجوماً كبيراً مثل الذي قامت به قد يؤدي إلى رد إسرائيلي يثير موجة من العنف على جبهات أخرى، بما في ذلك داخل إسرائيل - كما حدث مع تصاعُد القتال في غزة في أيار/ مايو 2021 الذي أثار اشتباكات بين العرب وإسرائيليين في مدن في جميع أنحاء إسرائيل.

وفي الوقت نفسه، أدى إحراز تقدُّم في المحادثات التي تهدف إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية إلى زيادة مخاوف كل من حماس وإيران، اللتين تخشيان المزيد من الزيادة في الكتلة المعارضة لإيران وحلفائها ووكلائها – أي ما يُسمَّى محور المقاومة – كما زاد تقدُّم تلك المحادثات القَلَق بشأن اندماج إسرائيل الأعمق في المنطقة. ومن المفترض أن حماس اعتقدت أن وقوع هجوم كبير من شأنه أن يُحبِط هذه العملية.

ومن المرجَّح أن حماس تشجعت بعد شعورها بأن الأزمة السياسية الداخلية في إسرائيل - التي أشعلتها احتجاجات واسعة النطاق ضد اقتراح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالحد من سلطة المحكمة العليا الإسرائيلية - قد حوّلت الانتباه عن غزة وقوضت بشكل كبير التماسك الاجتماعي في إسرائيل وصمودها. ومن الجدير بالذكر أن المسؤولين في مديرية المخابرات العسكرية الإسرائيلية ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي ووزير الدفاع حذروا نتنياهو من أن إسرائيل تبدو ضعيفة تاريخياً في عيون خصومها. وعلى الرغم من هذه التحذيرات التي تم نقلها في الأشهر الأخيرة من خلال سلسلة من الرسائل، اختار نتنياهو تجاهُلها.

ووفقاً للعقيدة الأمنية الإسرائيلية، عندما يفشل الردع، يتولى مجتمع الاستخبارات الدور الحيوي المتمثل في توفير الإنذار المبكر، مما يُمكِّن الجيش الإسرائيلي من الاستعداد والردّ بفعالية على التهديد. ولكن مفهوماً خاطئاً كارثياً ترسخ داخل مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، تماماً كما حدث في الفترة التي سبقت حرب يوم الغفران في عام 1973، حيث إنه خلال تلك الفترة، أخطأت أجهزة الاستخبارات في تقييمها بأن قوات مصر وسورية لن يقوموا بالانخراط في حرب لا يستطيعون الفوز بها، ففشلت في فهم هدف الرئيس المصري أنور السادات المتمثل في كسر الوضع الراهن.

وباعتبارها حركة جهادية متحالفة مع إيران ومحور المقاومة، فإن الطموح الأساسي لحماس يتلخص في إلحاق الأذى بإسرائيل وتقويض الدولة، بهدف نهائي وهو إزالة إسرائيل. لكن المخابرات وصُنّاع القرار الإسرائيليين أصبحوا يعتقدون أن مسؤوليات حماس في غزة - حيث كانت تحكم بشكل أساسي دولة الأمر الواقع التي تضم أكثر من مليونَيْ فلسطيني - قد خفّفت من تطرفها. وقد شجعت حماس بشكل مخادع هذا الفهم الخاطئ في السنوات الأخيرة، متظاهرة بأنها جهة فاعلة موثوقة، وحذرت من التصعيد إذا لم تسمح إسرائيل بوصول التمويل من قطر إلى غزة ولم تسمح لمزيد من العمال الغزاويين بدخول إسرائيل. وعندما وافقت إسرائيل على هذه التنازُلات، استخدمت حماس الأموال الناتجة والمعلومات التي جمعتها من سكان غزة الذين سُمح لهم بالعمل في إسرائيل للتخطيط سراً لهجومها القاتل.

يعود هذا الفشل في فهم طبيعة حماس ونواياها على النحو الصحيح إلى الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005 وانقلاب حماس اللاحق ضد السلطة الفلسطينية هناك. ومنذ ذلك الحين عملت إسرائيل على فرضية مفادها أن وجود حماس المنهكة والضعيفة أفضل من فراغ الحكم في غزة، ومن شأنه أن يسمح لإسرائيل بالتركيز على ما تعتبره تحدِّيَات إستراتيجية أكثر أهمية، مثل طموحات إيران النووية والحشد العسكري لحزب الله، وبناء على ذلك ففي كل مرة يحدث فيها تصعيد في غزة، كان هدف إسرائيل هو إعادة ترسيخ الردع من خلال استخدام محدود للقوة، وقد سمح هذا لحماس بتنفيذ عملية حشد طويلة المدى للأسلحة والبِنْية التحتية العسكرية وتحسين قدراتها العملياتية.

ولكن عندما يتعثر الردع وتفشل التحذيرات المبكرة في التحقق، فإن العقيدة الأمنية التقليدية لإسرائيل ترتد إلى ركيزتها الثالثة: القُدُرات الدفاعية للجيش الإسرائيلي. في العقد الماضي نجح الجيش الإسرائيلي في التخفيف من تهديدين رئيسيين من غزة: الهجمات الصاروخية (التي يعترضها نظام القبة الحديدية الدفاعي الإسرائيلي) والأنفاق التي تتسلل إلى الأراضي الإسرائيلية (والتي تم تحييدها بواسطة حاجز مضاد للأنفاق تحت الأرض أكملته إسرائيل على طول الحدود مع غزة في عام 2021). ولكن إسرائيل فشلت في تصور وقوع غزو جوي، ولم تعمل على تعزيز الدفاعات حول غزة بما يتناسب مع قدرات حماس العسكرية المتنامية، وهو انحراف عن الدرس الرئيسي الذي تعلمته خلال حرب يوم الغفران: تنظيم الدفاع وفقاً لقدرات الخصم وليس فقط وفقاً لنواياه المُقدّرة. نتيجة لذلك وجدت القوات الإسرائيلية في المنطقة نفسها قليلة العدد في المنطقة المحيطة بغزة ومنحت إجازات للعديد من الجنود خلال عطلة عيد العرش (سوكوت).

كما أصبح الجيش الإسرائيلي يعتمد بشكل مفرط على الوسائل التكنولوجية للدفاع عن الحدود، مثل الكاميرات وأجهزة الاستشعار المتقدمة والمدافع الرشاشة التي يتم التحكم فيها عن بُعد. واستخدمت حماس طائرات بدون طيار لتحييد تلك الأدوات واخترقت الحاجز بالجرافات في مزيج من وسائل التكنولوجيا العالية والمنخفضة على عكس أي شيء توقّعته إسرائيل.

الركن الرابع للعقيدة الأمنية الإسرائيلية هو مفهوم تحقيق نتيجة عسكرية حاسمة، أي تأمين نصر لا جدال فيه على العدو من خلال تحييد قُدراته العسكرية وعزمه على مواصلة القتال، وقد أثارت هذه الفكرة جدلاً واسع النطاق بين الخبراء وكبار قادة الجيش الإسرائيلي لسنوات عديدة حول كيفية تعريف "النتيجة الحاسمة" و"النصر" وكيفية تطبيقهما على الصراعات مع الجهات الفاعلة غير الحكومية والجماعات العسكرية، تدرك إسرائيل الآن أنه على الرغم من أن الأيديولوجية الجهادية لحماس قد تستمر (كما هو الحال مع تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة)، إلا أنه يجب على الجيش الإسرائيلي تفكيك القدرات العسكرية للحركة.

الهدف في غزة

وفي أعقاب الهجوم الذي شنته حماس، أدركت إسرائيل أنها غير قادرة على التعايش مع منطقة تحكمها حركة جهادية على أعتابها في غزة. لقد انتهى عصر الدورات المتقطعة من القتال ووقف إطلاق النار في غزة، وما سيحل محلّها هو حملة عسكرية متواصلة مطوّلة، وهي حملة لا تحركها الرغبة في الانتقام بل ترتكز على المصالح الأمنية الإسرائيلية العليا والالتزام الثابت بالعودة الآمنة للرهائن الذين تحتجزهم حماس.

وكانت العملية البرية الإسرائيلية مجرد خطوة أولى، وسوف تستمر الجهود العسكرية بعد انسحاب قوات الجيش الإسرائيلي من غزة. إن الإستراتيجية الإسرائيلية الفعالة تتطلب تكامل العديد من المساعي المترابطة والمتوازية – العسكرية والمدنية والسياسية – والتي يتم تنفيذها بشكل منهجي ضِمن إطار منظم، والتي يجب إعادة مواءَمتها باستمرار مع توقُّعات الجمهور الإسرائيلي ودمجها مع حملة دبلوماسية من شأنها تأمين إسرائيل، كما تتطلب المساعدة والدعم من الحلفاء والشركاء.

وتمثل هذه الحرب عودة إلى الشروط المنصوص عليها في اتفاقات أوسلو، والتي أكدت عدم رغبة إسرائيل في التسامح مع وجود كيان فلسطيني مسلح على حدودها. وتسعى الحكومة الإسرائيلية أيضاً إلى استعادة ثقة الجمهور في الجيش الإسرائيلي ومؤسسات الدولة الأخرى وإرسال إشارة مفادها أن إيذاء المواطنين الإسرائيليين سيؤدي إلى تكلفة لا تُطاق لخصوم البلاد ويؤدي إلى تدميرهم في نهاية المطاف. إن حجم الضرر الذي ألحقته حماس بإسرائيل يتطلب رداً حاسماً، حتى ولو ترتب على ذلك تضحيات كبيرة. إن شعب إسرائيل، الذي يحتشد للخدمة الاحتياطية بأعداد غير مسبوقة وينظم منظمات تطوعية لمساعدة الناجين والنازحين، يدرك تماماً التحدي الهائل الذي ينتظره.

إن الأهداف الواقعية للمرحلة البرية الحالية من الحرب ليست القضاء على كل نشطاء حماس أو تجريد غزة من السلاح بشكل كامل، بل إضعاف حماس (وحليفتها في وقت ما، حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية) كقوة مقاتلة، وتدمير بِنْيتها التحتية، والقضاء على التهديد المباشر القادم منهما الموجه ضد المستوطنات الإسرائيلية القريبة من غزة. وسوف يتطلب هذا تدمير الجهاز الرئيسي لحركة حماس في مدينة غزة، ومنشآتها الموجودة تحت الأرض، وجميع أصولها الموجودة فوق الأرض، مثل المنشآت العسكرية، والمقرات، ومراكز القيادة والسيطرة، والبِنْية التحتية للاتصالات، ومنشآت تصنيع ومستودعات الأسلحة.

عند اختيار الأهداف لقصفها أو مداهمتها، تتعقد هذه المهمة بسبب الكثافة السكانية الشديدة في غزة والتي تعمل حماس داخلها عمداً وتعزز بِنْيتها التحتية العسكرية، وبسبب شبكة الأنفاق التي بنتها حماس والتي يبلغ طولها حوالي 300 ميل خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، وهي تحصينات تحت الأرض تمتد تحت كل مدينة في غزة.

ولن تنتهي العملية البرية إلا عندما تتوقف حماس عن العمل كسلطة حاكمة في غزة وتتدهور قدراتها العسكرية إلى حد كبير. عند هذه اللحظة ستنتقل الحملة إلى مرحلة جديدة، من المحتمل أن تمتد لعدة سنوات، على الأقل حتى يتم إطلاق سراح جميع الرهائن وعودتهم إلى ديارهم بأمان. وسوف تستمر الغارات المستهدفة داخل غزة والغارات الجوية ضد حماس، وسوف تحتاج إسرائيل إلى تحصين عدد من المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية بالقرب من الحدود مع غزة لإنشاء منطقة عازلة لتعزيز الدفاع عن الحدود.

وفي هذه الأثناء، سيتعين على الجيش الإسرائيلي أن يراقب الحدود اللبنانية، حيث تريد إسرائيل إبقاء حزب الله خارج الصراع، لكنها مستعدة لتصعيد محتمل على حدودها الشمالية، سواء بسبب سوء تقدير أو بسبب قرار إيراني بإصدار أوامر لوكيلها بفتح جبهة جديدة في الحرب.

وبعد انتهاء العملية البرية الرئيسية في غزة، سوف تحتاج إسرائيل إلى مواجهة التهديد الكبير الذي تشكله قوات النخبة التابعة لحزب الله "الرضوان" المتمركزة على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية. وتشكل هذه القوات تهديداً كبيرًا للقرى والمدن الشمالية لإسرائيل، والتي تم إخلاؤها بالفعل في بداية الحرب على غزة. يجب على إسرائيل حشد الضغوط الدولية على لبنان وحزب الله لتطبيق أحكام قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 والالتزام به، والذي يحظر على حزب الله (وأي قوات مسلحة باستثناء قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والجيش اللبناني) الحفاظ على وجود عسكري جنوب نهر الليطاني. والتي تمتد على بُعد حوالَيْ 18 ميلاً شمال الحدود الإسرائيلية، وتبعد أقرب نقطة عنها مسافة 2.5 ميل فقط. وإذا أثبتت الجهود الدبلوماسية عدم نجاحها، فإن إسرائيل ستكون مستعدة للقيام بعمل عسكري، حتى مع المخاطرة بتصعيد الأعمال العدائية إلى صراع أوسع مع حزب الله.

غزة والجغرافيا السياسية

لتحقيق النصر في هذه الحرب، ستحتاج إسرائيل إلى دعم الشركاء الذين يشاركونها مصالحها الإستراتيجية، وسوف يلعب عدد من الدول العربية والولايات المتحدة والدول الأوروبية أدواراً محورية، حيث سوف تشمل مساهماتهم التمويل والدعم العسكري، وحملة عالمية للحد من تمويل حماس، وتقديم المساعدات الإنسانية للمدنيين والنازحين داخل غزة (وربما خارجها)، وجهود إعادة الإعمار، والحملات الإعلامية لمواجهة الدعاية المناهضة لإسرائيل والمعادية لليهود في جميع أنحاء العالم، والأهم من ذلك إنشاء سلطة حكم شرعية في غزة.

لعبت الولايات المتحدة، تحت قيادة الرئيس جو بايدن، دوراً مهماً في عملية صُنع القرار في إسرائيل في زمن الحرب، حيث نصحت بضبط النفس لمنع التصعيد في الشمال، وطالبت بالالتزام بقوانين الصراع المسلح، وفي الأسابيع التي تَلَتْ يوم السابع من أكتوبر، قامت إدارة بايدن بإطلاق مستوى غير مسبوق من المساعدات والدعم العسكري، وقد تم إرسال حاملات الطائرات والقوات الأمريكية إلى المنطقة على نطاق لم يسبق له مثيل، بهدف ردع إيران وحزب الله من التدخل في الحرب، ولحماية القوات الأمريكية في المنطقة من الهجمات العديدة التي تشنها الميليشيات الشيعية الأخرى المدعومة من إيران، ومن أجل تقديم أقوى أداء كرد قوي على مثل هذه الهجمات. ولكن مع ذلك فمن الجدير بالذكر أن إسرائيل تحافظ على مبدئها الأساسي المتمثل في الدفاع عن نفسها بنفسها، والامتناع عن طلب التدخل الأمريكي تفادياً لوقوع الخسائر الأمريكية.

كما أبدت العديد من الدول الأوروبية أيضاً دعماً ثابتاً لإسرائيل، متجاوزاً مخاوفها المباشرة بشأن سلامة المواطنين الأوروبيين المحتجَزين كرهائن لدى حماس. وقد زار زعماء أوروبيون رفيعو المستوى، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز، ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، إسرائيل للتعبير عن التضامُن. وخلال زيارته في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر، دعا ماكرون إلى إنشاء تحالُف دولي لمحاربة حماس، على غرار التحالف الذي حارب تنظيم الدولة منذ عام 2014.

ومن أجل تأمين المساعدة المستمرة من الزعماء الأمريكيين والأوروبيين، الذين يواجه العديد منهم انتقادات داخلية لدعمهم، تحتاج إسرائيل إلى تعزيز توافُقها الجيوسياسي مع الكتلة التي تمثلها الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو على أفضل وجه، وقد ينطوي ذلك على إعادة تقييم سياسة إسرائيل تجاه أوكرانيا، مما قد يؤدي إلى زيادة الدعم لدفاع كييف ضدّ العدوان الروسي. بالإضافة إلى ذلك، يجب على إسرائيل أن تسعى جاهدة لزيادة المساعدات الإنسانية لغزة، وأن توضح أنها لا تنوي احتلال المنطقة بشكل دائم، وأن تؤكد باستمرار التزامها بقوانين الحرب (وتعترف بأي أخطاء في هذا الصدد)، وتضع مهمتها في غزة في سياق عملية سياسية إسرائيلية فلسطينية أوسع يمكنها تعزيز الترتيبات الأمنية القوية والحفاظ على جدوى حلّ الدولتين.

وفي العلن أدان زعماء العديد من الدول العربية -بما في ذلك تلك التي تقيم إسرائيل علاقات معها- بشدة حربها في غزة، مدفوعين بالخوف من الاضطرابات وعدم الاستقرار الداخلي. ولكن خلف الأبواب المغلقة، فإنهم يشعرون بالقلق إزاء التهديد المتمثل في عودة حركة حماس، وهي فرع الإخوان المسلمين التي شكلت دائماً تهديداً خطيراً للأنظمة العربية، وتخدم مصالح منافسهم الإقليمي الرئيسي، إيران. تخشى الحكومات في مصر والأردن والسعودية والإمارات من أن أي نجاح تحققه حماس في الصراع الحالي سيشجع القوات الجهادية السنية في بلدانها والميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران في الدول المجاورة مثل العراق ولبنان واليمن.

وفيما يتعلق بتأمين الدعم العالمي للحرب ضد حماس خارج أوروبا، والولايات المتحدة والخليج فإن الصورة تصبح قاتمة، فقد امتنعت الصين وروسيا عن إدانة هجوم حماس علناً، وسعت إلى تقليص جهود إسرائيل لتفكيك الحركة من خلال الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، وأطلقتا العنان لدعاية معادية للسامية على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الحكومية. ومن جانبها تدفع روسيا الرغبة في تحويل انتباه الغرب وموارده بعيداً عن الحرب في أوكرانيا، وتعتقد أنها سوف تستفيد من تصاعُد الصراع في الشرق الأوسط، وليس هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن إسرائيل قادرة على فعل أي شيء لتغيير توجُّهات موسكو.

لكن موقف الصين أكثر دقة، حيث إنها تخشى نشوب صراع إقليمي قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط مما قد يضرّ بالتعافي الاقتصادي الضعيف بعد "كوفيد-19". ونظراً لاصطفاف إسرائيل مع الغرب والولايات المتحدة، فقد يكون من الصعب على إسرائيل التأثير على سياسة الصين تجاه جهودها الحربية في غزة، لكن يمكن لإسرائيل استغلال مخاوف بكين بشأن التصعيد الإقليمي لتشجيعها على الضغط على إيران لكبح جماح حزب الله ووكلائه في العراق واليمن، وفي الوقت نفسه، يتعين على إسرائيل أن تعمل على تعزيز علاقاتها الإستراتيجية مع الهند، التي دعمت إسرائيل بشكل خاص وأدانت هجوم حماس؛ ومن الممكن أن تساعد العلاقات القوية مع نيودلهي في مواجهة الانتقادات التي تواجهها إسرائيل من دول أخرى في الجنوب العالمي.

صراع العودة إلى الوطن

إلى جانب العمليات العسكرية والدبلوماسية المعقَّدة، يتعين على القادة الإسرائيليين أن يطلقوا عدداً من المبادرات في الداخل التي لن تكون أقل تحدياً. أولاً يتعين عليهم أن يبدؤوا في استعادة الشعور بالحياة الطبيعية في مجتمع مصاب بصدمة نفسية، بدءاً بإعادة بناء المستوطنات القريبة من حدود غزة التي دمرها هجوم حماس وإعادة السكان الذين فروا من منازلهم في شمال إسرائيل إلى أوطانهم كإجراء احترازيّ ضدّ أي هجوم من جانب حماس أو حزب الله، وينبغي استئناف الأنشطة الاقتصادية في جميع أنحاء إسرائيل على الفور، ويجب أن تعود تدريجياً إلى مستوياتها المعتادة.

والأهمّ من ذلك يجب على الحكومة أن تعمل على استعادة الثقة في مؤسسات الدولة بين المواطنين الإسرائيليين، وسوف يتطلب هذا قيادة جديدة وموحَّدة، والتعبئة المنسقة لكل الوزارات الحكومية، وإجراء تحقيق رسمي في أصول هجوم حماس.

ولكن الحكومة الحالية، وخاصة نتنياهو، غير مؤهلة لهذه المهمة، ففي نهاية المطاف يتحمل هو وحلفاؤه المقرَّبون المسؤولية عن الفشل في معالجة مشكلة غزة وحماس على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، وعن الصدع غير المسبوق في المجتمع الإسرائيلي الذي أدى إلى انخفاض استعداده في الأشهر التي سبقت الهجوم، سيكون لزاماً على إسرائيل أن تُجري انتخابات في أقرب وقت ممكن بعد انتهاء العملية البرية في غزة، طالما أن الظروف الأمنية، بما في ذلك في الشمال، تسمح بذلك.

وحتى قبل انتهاء العملية البرية الرئيسية وانسحاب القوات الإسرائيلية، يتعين على إسرائيل أن تبدأ حواراً مع الدول العربية والشركاء الدوليين لصياغة خطة للحكم المستقبلي في غزة. إن النهج الأكثر تبشيراً هو إنشاء إدارة مؤقتة للإشراف على المنطقة إلى أن تصبح السلطة الفلسطينية قادرة على الاضطلاع بهذا الدور. وستترأس هذه الإدارة الولايات المتحدة والدول العربية الخمس التي أبرمت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، ولتمهيد الطريق لعودة السلطة الفلسطينية في نهاية المطاف إلى غزة، يجب على المجتمع الدولي، بمساعدة وتنسيق إسرائيلي، أن يعمل مع السلطة الفلسطينية لبناء قُدراتها في الحكم ومعالجة الفساد في صفوفها.

سيكون الدعم الكبير من دول الخليج العربية الثرية أمراً لا غنى عنه لمعالجة الجوانب الاقتصادية والسياسية والأمنية المتنوعة للحكم في غزة. وفي هذا الصدد فإن تجديد محادثات التطبيع بين إسرائيل والسعودية أمر بالغ الأهمية، وكذلك دمج المملكة في مشروع حكم غزة، ربما يكون دور طهران في مساعدة حماس على التطور في السنوات الأخيرة قد زاد من مستوى الاهتمام بالتطبيع داخل كتلة الدول العربية المناهضة لإيران، إذ إن أي حكومة إسرائيلية جديدة ملتزمة بتعزيز السلطة الفلسطينية والحفاظ على منظور منفتح بشأن حلّ الدولتين يمكن أن تزيد من دفع عملية التطبيع إلى الأمام.

قد يبدو أن الحرب ضد حماس وإمكانية مناقشة حلّ الدولتين أمران غير مريحين، ولكن منذ نشأتها عارضت حماس وقوّضت احتمال قيام الدولتين؛ وكلما بدا أن المحادثات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية تكتسب زخماً، كانت حماس تشنّ هجمات، كما أن الحركة ترفض اتفاقيات أوسلو بشدة، وترفض الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، وتسعى علناً إلى تدميرها، وبالتالي فإن إزاحة حماس من السلطة في غزة لا يشكل عائقاً أمام فكرة الدولتين: فهو شرط ضروري (وإنْ لم يكن كافياً) لأيّ تقدُّم إيجابي في العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية وفي الشرق الأوسط بشكل عامّ.

الرجوع إلى الأساسيات

في أعقاب صدمة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، تجد إسرائيل نفسها في واقع جديد، وفي المستقبل سيتعين عليها أن تضع جانباً التصوُّرات والمعتقدات والافتراضات التي أصبحت مألوفة في السنوات الأخيرة، وأن تعود إلى بعض المبادئ التأسيسية التي أهملتها.

وللتعامل مع وجود قوات عسكرية تهديدية على طول حدودها، قد تجد إسرائيل أنه من الضروري التحوُّل من إستراتيجية ردّ الفعل الانتقامية إلى نهج أكثر استباقية يتضمن توجيه ضربات وقائية. إنّ تفكيك نظام حماس في غزة سوف يساعد في استعادة الردع، وسوف تحتاج البلاد أيضاً إلى إعادة تقييم وتعزيز وربما إصلاح نظام الإنذار المبكر لديها، وخاصة من خلال زيادة استخدام مصادر الاستخبارات البشرية، وسيحتاج الجيش الإسرائيلي أيضاً إلى تحويل تركيزه إلى توقُّع الخروقات وبناء خطوط دفاع ثانوية. إنّ عِبْء تحقيق نتائج حاسمة سوف يقع دائماً على كاهل الجيش الإسرائيلي، ولكن على الرغم من التزام إسرائيل الدائم بالاعتماد على الذات، فقد يكون من الضروري صياغة إستراتيجية مشتركة أكثر تنسيقاً مع الولايات المتحدة، الحليف الأقوى لإسرائيل، بل وحتى بعض الشركاء الإضافيين.

إن المرة الأخيرة التي واجهت فيها إسرائيل تحدِّياً كهذا، ولو من بعيد، كانت في عام 1973، ففي البداية، بدت حرب يوم الغفران وكأنها هزيمة لإسرائيل؛ ومن المؤكد أن الدول العربية رأت الأمر بهذه الطريقة، ولكن في النهاية، خرجت إسرائيل منتصرة، وأدى انتصارها إلى اتفاق سلام رائد مع مصر ــ وهي النتيجة التي أدت إلى تحريك كل التطوُّرات الإيجابية التي حدثت في المنطقة منذ ذلك الحين. ومن السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت إسرائيل ستتمكن مرة أخرى من تحويل المعاناة والخسارة إلى سلام وتقدُّم، ولكن حتى في هذا الواقع الجديد القاتم، هناك سبب يدعو للأمل.

ترجمة: عبد الحميد فحام
المصدر: (فورين أفيرز)